الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
قانون المعلوماتية ...

يتستر قانون جرائم المعلوماتية المقترح لعام 2011 المزمع تقديمه للمناقشة والتصويت عليه في الدورة الحالية لمجلس النواب العراقي بحسب ما جاء في الأسباب الموجبة بـ "الأمن الوطني والسيادة الوطنية"، في وقت تتعرض فيه البلاد لشتى أنواع التدخل والإنتهاك الأقليمي والدولي. هذا إلى جانب ارتكابه مخالفة دستورية واضحة فيما يتعلق بالفصل الثاني الخاص بالحريات حيث تنص المادة 38 من الدستور العراقي النافذ على حماية المواطن من طرق مصادرة حقه في "حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وحرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي ...". ونصت المادة 40 من الدستور أيضاً على حرية الإتصالات والمراسلات البريدية والبرقية والهاتفية والألكترونية كونها مكفولة، ولا يجوز مراقبتها أو التنصت عليها أو الكشف عنها. يذكر أنّ منظمة حقوق الإنسان الدولية أشارت في تقرير صدر عنها عام 2012، شارك بإعداده خبراء قانونيين أنّ القانون العراقي المقترح يوقع عقوبات شديدة ويستخدم مفردات غامضة غير محددة قابلة للتأويل مما يتطلب إعادة النظر فيه.

يعطي القانون أوزاناً متباينة وتراتبية للجرائم ذات المساس بأمن البلاد والإرهاب والإتجار بالبشر والدعوة إلى العصيان المسلح والطائفية وإثارة الفتن والتلاعب بممتلكات المواطنين والتزوير والتلاعب التجاري وغسيل الأموال والتهديد وإعطاء معلومات كاذبة، إلخ بدلالة العقوبة المحددة بالسجن المؤبد أو المؤقت والغرامات المالية دون الإهتمام بالقاعدة المشتركة التي تقوم عليها كل هذه الجرائم. قاعدة تقوم على التساند والتكامل فيما بين هذه الجرائم التي تؤدي مجتمعة وعندما تمارس من قبل عدة أشخاص إلى ما يعرف بالفساد المالي والإداري بإعتباره العنوان الواسع والعريض. يقترح القانون عقوبة السجن المؤبد وغرامة مالية تتراوح بين 25- 50 مليون دينار عراقي لكل من يهدد أمن البلاد أو يتورط في ممارسة الإرهاب. وتبقى عقوبة السجن المؤبد لمن أنشأ أو نشر موقعاً بقصد الإتجار بالبشر والمخدرات والمؤثرات العقلية ولكنّه يرفع الحد الأدنى للعقوبة في هذه الحالة من 25 مليون عراقي إلى 30 مليون ويخفض حدها الأعلى من 50 مليون إلى 40 مليون دينار عراقي. وكذلك يفعل مع التزوير حيث تعطى عقوبة السجن المؤقت وغرامة مالية لا تقل عن 10 ملايين ولا تزيد عن 15 مليوناً وتضاعف في حال أنْ يكون الجاني موظف رسمي لتصل إلى السجن عشر سنوات وغرامة مالية تتراوح بين 20 – 30 مليون عراقي. وتلحق بهذه جرائم أخرى تنال عقوبات أخف مثل التلاعب التجاري وغسيل الأموال وشهادات التصديق غير الصحيحة والغش والسرقات العلمية البحثية أو الأدبية وممارسة القمار والتلاعب بكلمات السر أو رمز الدخول، إلخ.

يرتكب القانون أفدح الأخطاء عندما يرد في المادة 18 أولاً، إنزال عقوبة بالسجن وغرامة مالية تتراوح بين 5- 10 مليون عراقي لمن يدلي بمعلومات كاذبة أو يمتنع عن تقديم معلومات إلى السلطات القضائية والإدارية. يخضع كل المواطنين العراقيين قاطبة في هذه الحالة إلى سلطة القضاء أو الإدارة للكشف عن مصادر معلوماتهم مما يسدل الستار على أي محاولة لتحري الحقيقة وتسليط الضوء عليها في مجتمع تعاني مؤسساته الرسمية وغير الرسمية من إنعدام يقرب إلى أنْ يكون تاماً للشفافية والوضوح. تلحق هذه المادة الضرر بملايين المواطنين من المشتغلين في دوائر الدولة بضمنها المؤسسات الإعلامية والبحثية التي يقوم عملها على تحري الحقيقة وتتبعها والبحث عنها مما لا تتوفر دائماً أدلة مادية قطعية بصددها حيث يصبح لزاماً والحالة هذه قراءة الرأي العام وتعقب توجهاته من خلال ما ينشر ويكتب ويقال.

من جانب آخر، يتطلب تشريع هذا القانون إجراء تعديلات جوهرية على الدستور الذي استند إليه في المادة 73 والتي تخول رئيس الجمهورية الدعوة إلى سنّه. تقترح المادة 6 عقوبة السجن المؤبد أو المؤقت وغرامة لا تقل عن 25 مليون عراقي ولا تزيد على 50 مليون لمن يستخدم الحاسوب وشبكة المعلومات لإثارة النعرات المذهبية أو الطائفية مما يتطلب حسم ثنائية "الدين والديموقراطية"، التي جاءت في المادة 2 من الدستور النافد من حيث أنّ هذه المادة تؤسس لمثل هذه النعرات المثيرة للقلق.

لعل الأشد إثارة للعجب أنّ واضعي القانون لم يطلعوا كما يظهر على التجارب الدولية والقاعدة الفكرية التي تقوم عليها قوانين من هذا النوع والتي تستند إلى فكرة حماية المواطن وأصحاب العمل وليس جعلهم بمثابة العدو الذي ينبغي الحذر منه ومراقبته والحد من احتمالات تعديه بعقوبات تعسفية غير مسبوقة كما جاء في متن القانون. سبق للإتحاد الأوروبي أنْ أعلن في الحادي عشر من كانون أول 2018 الاتفاق بين مفاوضيه من ممثلي الدول الأعضاء في الإتحاد على تأسيس هيئة أو وكالة لتطبيق قانون المعلوماتية. تعمل هذه الهيئة على تعزيز عمل الوكالة الأوروبية التي تنتهي أعمالها مطلع عام 2020. ويهدف القانون الأوروبي للهيئة إلى تعزيز قدرة دول الاتحاد ضد التهديدات والهجمات الألكترونية لتسهيل تدفق المعارف والخدمات التجارية وغير التجارية عبر شبكة المعلومات (الأنترنت) وتحضير أوروبا للعصر الرقمي "Digital Age". جاء تشريع هذا القانون استجابة لمطالب 90% من الأوروبيين حسب ما جاء في الموقع الألكتروني "Open Access to Government” بحماية حقوق الملكية الرقمية بغض النظر عن المكان المحدد الذي تنطلق منه ضمن دول الاتحاد. وعبرت السيدة ماريا كابرييل المديرة المسؤولة عن المنظمة الاقتصادية والاجتماعية الألكترونية في الاتحاد الأوروبي عن إنّ القانون يهدف إلى زيادة ثقة المواطنين الأوروبيين وأصحاب العمل في الاتحاد بوسائل الإتصالات الألكترونية. تضمن الإتفاق الأوروبي إصدار قانون ثابت لدعم وكالة المعلوماتية لتعزيز القدرات الفنية للأمن الألكتروني وتطوير القدرات على استكمال العمل والتهيؤ لمواجهة أي هجمات متوقعة. ولعل الأهم في مبادرة الاتحاد الأوروبي هذه الإتفاق على جعل الهيئة مستقلة في عملها عن إدارات الدول الأعضاء لزيادة وعي المواطنين وأصحاب العمل بما يسمى "الوعي الألكتروني"، والمساعدة على معالجة الإخفاقات وأيضاً تقديم الخبرة والإستشارة الفنية للدول الأعضاء على مستوى وضع السياسات وبرامج العمل لتمتين الثقة وتيسير تدفق المعلومات وإنجاز المعاملات التجارية. وكان الكونغرس الأمريكي شرع من قبل عام 1998 قانون المعلوماتية الذي تطلب إحداث تغييرات جوهرية في قانون حقوق الملكية على الأنترنت تنسيقاً مع المنظمة الدولية للمحافظة على حقوق الملكية. يتضح من خلال هذه المراجعة لتطور قوانين المعلوماتية في العالم أنّها تصمم لحماية مواطنيها وليس تخويفهم وردعهم. ويتضمن هذا أيضاً الشروع بتأسيس هيئات فنية متخصصة يعمل فيها موظفون أكفاء لمواجهة مخاطر الهجمات الألكترونية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبما يحفظ أمن البلاد والعباد. لم تضع هذه الدول المتقدمة قوانين تهدد فيها وتزبد وترعد. ولم يدع نواب ممثلون عنها أنّ هناك مواقع وهمية ومزيفة وأنّه لابد من مواجهتها بقوانين من هذا النوع. بل تحركت هذه الدول وفق سياقات زمنية كافية لتؤسس هيئات متخصصة تتحمل مسؤولية حماية حقوق المواطنين وتسهيل أمر استخدامهم لوسائل الإتصال الألكترونية التي صارت جزءاً لا يتجزأ من مستلزمات الحياة المعاصرة في كل مجتمعات العالم. تماماً كما صارت السيارة والتلفزيون والهاتف من قبل مستلزمات لا غنى لأحد عنها سواء على صعيد العمل أو الحياة الشخصية.

يلاحظ أنّ القوانين المماثلة في دول الجوار مثل الأردن توافقت مع القوانين الدولية بمحاربة الهجمات الألكترونية لحماية المواطن وتعزيز ثقته بالسوق الألكترونية وأكتفت بإنزال عقوبات مخففة بحق المتطاولين على الشبكة الوطنية ممن يعرضون ممتلكات المواطنين وأعمالهم للخطر كما في السجن مدة لا تقل عن أسبوع وغرامة تتراوح بين 100- 200 دينار أردني أو ما يعادل 140 ألف – 300 ألف عراقي لمن دخل بصورة غير مشروعة على حساب أحد فرداً كان أو مؤسسة عمل. وزاد القانون الأردني عقوبة السجن إلى ما لا يقل عن ثلاثة أشهر ولا يزيد على سنة مع غرامة مالية لا تقل عن 200 دينار أردني ولا تزيد على ألف دينار لمن دخل أو ألغى أو حذف أو عطل شبكة أحد. وتصل العقوبة بحسب القانون الأردني إلى ما لا يقل عن سنة ولا تزيد على ثلاث سنوات وغرامة لا تقل عن 500 دينار ولا تزيد على 2000 دينار لمن تلاعب بأموال الناس ودخل بحساباتهم. تضاعف العقوبة على الموظفين الرسميين ممن يخونون الأمانة.

يدعي قانون جرائم المعلوماتية العراقي إنّه يسعى إلى تعزيز ثقة المواطن بالتقنيات الحديثة بيد إنّه بصيغته الحالية يعبر عن الخوف والتطير مما تجود به ثورة المعلومات وتقنياتها المتسارعة في النمو والإنتشار متخذاً منها مواقف دفاعية وطاردة. لن تبشر سياسة من هذا النوع إلا بمزيد من العزلة والتخلّف والتراجع لمجتمع تستعصي مشكلات مختلف الشرائح فيه على الحل ليظهر وحيداً وسط بلدان تغذّ الخطى لمزيد من التفاعل مع العالم وبحسب قاعدة مصالح وأمن وسلامة مواطنيها أولاً وقبل كل شيء.

  كتب بتأريخ :  الأحد 28-04-2019     عدد القراء :  1674       عدد التعليقات : 0