الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
\"برمودا\"...

لم تتدخل شرطة محافظة النجف لوقف التصادمات بين جمهور غاضب من المتظاهرين ضد الفساد قبل يومين على مراكز تسويقية ومحال تجارية مما يقع تحت مسؤوليتها المباشرة مما أثار ضجة لا تزال قائمة حتى اللحظة. بيد أنّ شرطة محافظة كركوك أعطت كوادرها منذ بداية الشهر الكريم صلاحية اعتقال الشباب الذين يرتدون سراويل قصيرة تصل حد الركبة وتدعى "برمودا"، وإنْ كان بدوافع ذاتية مجردة ليس فيها ضرر على أحد أو طرف. وسرعان ما نقلت قنوات وصحف عربية وغير عربية الخبر كما جاء في أحد عناوين صحيفة الجمهورية المصرية: عاصمة عربية تعتقل الشباب بسبب إرتدائهم "الشورت". يلاحظ أنّ حالات الإعتقال هذه حصلت في أكثـر من محافظة إلى جانب كركوك وهي بغداد والنجف والفلوجة والأنبار. وحصلت حالات تنمر من قبل رجال شرطة على شباب يرتدون مثل هذه الملابس أو يقصون شعرهم بطريقة خاصة في البصرة ومناطق أخرى.

معلوم أنّ المجتمعات الإنسانية الحديثة تهتم بخفض نسبة تدخل الحكومات وأدواتها من أجهزة أمنية وشرطة وجيش وما يرتبط بهما من قوى في الحياة الشخصية للأفراد، قدر الإمكان. ويأتي هذا إنطلاقاً من تقدير حقيقة أنّ ما ينتظرها على مستوى تحقيق الأمن الداخلي والخارجي كبير وينطوي على تحديات عظيمة تتطلب تعبئة إمكاناتها بدقة وتقنية وإنتظام دائم بعيداً عن الإنهماك بما هو جانبي ولا يخص عملها، إبتداءاً. تركز الحكومات على وضع البرامج والسياسات المصممة لتسهيل حياة الأفراد وتمكينهم ليقودوا حياتهم بأنفسهم وبمحض إراداتهم الشخصية ما أمكن ذلك من خلال المحافظة على الأمن والأمان وترسيخه والمساعدة على توفير المستلزمات المادية اللازمة له. ويعني هذا التحرر من إملاء التعليمات والتوجيهات بشأن ما يلبسون ويأكلون وكيف يعيشون ويتفاعلون مع بعضهم البعض على صعيد الحياة الخاصة. أضف إلى ذلك أنّ تدخلات من هذا النوع تمس جوهر مفهوم الحرية الشخصية التي ينص عليها الدستور ووثيقة حقوق الإنسان التي يلتزم العراق بها والتي يفترض أنْ تدافع عنها الهيئات الوطنية المستقلة واللجان المتخصصة بمراقبة تطبيقاتها والحيلولة دون انتهاكها على مستوى مجالس المحافظات.

خبر المجتمع العراقي أنظمة سياسية تتدخل بكل هذه الجوانب بلغ بعضها أنْ فرض على شرائح معينة من السكان "أخذ الموافقة على الزواج"، بالنسبة إلى ضباط الجيش ومنتسبي الحزب الحاكم قبل 2003 تعبيراً عن الطبيعية التوتاليتارية للنظام وإحكاماً للسيطرة عليه. ومورست بداية السبعينيات سياسات وتطبيقات استهدفت منع الفتيات والنساء من إرتداء الملابس القصيرة التي شاعت حينها كموضة عالمية. وظهرت بعد ذلك بين فترة وأخرى تعليمات وتوجيهات إلى قطاع المعلمات والمدرسات لإرتداء الزي الموحد الذي طبق على طلبة الجامعات لفترات طويلة امتدت حتى اليوم بدرجات متفاوتة من قوة التطبيق والإلزام. ولم تجد وزارة المرأة التي شكلت لفترة قصيرة بعد 2003 إلا أنْ تنحو بنفس الإتجاه عندما أصدرت تعليمات ضمن ما أسمته "توصيات اللجنة الوطنية العليا للنهوض بالمرأة"، دعت فيها إلى منع ارتداء البدلات الضيقة والتنورات القصيرة والبنطلونات والفساتين واضحة المعالم وحتى منع ارتداء القمصان المبهرجة الألوان واللماعة.

تقليدياً، يربط الدارسون بين الأزياء والمجتمع على وجه العموم. فقد كانت الأزياء منذ بدء المجتمعات الإنسانية بالدخول في مضمار الحضارة والتطور تتمايز فيما بينها على هذا الصعيد. ولطالما أستخدم الرداء أو أجزاء منه كوسيلة من وسائل التفريق بين الجماعات الدينية والعشائرية والطبقية. يزدان متحف أربيل في القلعة مثلاً بلوحة تحمل صوراً لأكثر من خمسين قبعة رأس متنوعة الأشكال والألوان تحمل كل منها اسم عشيرة من عشائر الأقليم تميزها عن غيرها وتؤرخ لها. هذا في الأعم الأغلب. بيد أنّ العلماء المحدثين لفتوا النظر إلى ما للأزياء من صلة بالحداثة مهدت لما يعرف اليوم بالعولمة التي تشهد على تبادل وتفاعل واسع على صعيد السلوكيات وأنماط الحياة بما في ذلك الرداء المناسب والمرغوب به من قبل الأفراد. وربط علماء متعددين بين الأزياء والطبيعة الاجتماعية والثقافية للمجتمع حتى جاء صانع علم الاقتصاد الحديث آدم سمث صاحب كتاب "ثروة الأمم"، ليلفت النظر إلى ثنائية الاجتماعي والاقتصادي كما يعبر عنه فيما يرتديه الفرد من ألبسة. فالرداء بنظره جزء حيوي من طريقة الإنسان للإندماج بالجماعة وإنْ حصل ذلك من خلال التقليد بحثاً عن الأمان والمقبولية مما يترتب عليه نتائج اقتصادية تأخذ بالإعتبار الحاجات والأذواق والمستويات الطبقية. وأضيفت عوامل أخرى إلى هذه كالجندر وطبيعة ميدان العمل وأوقاته والمناسبات المتنوعة. فلكل من هذه أردية وألبسة مختلفة. بل إنّ اللباس يستحوذ على اهتمام استثنائي في ميادين الفن والموسيقى والمسرح والنحت كما ذهب إلى ذلك هربرت بلومر منذ ستينيات القرن الماضي ضمن ما أطلق عليه علم اجتماع الموضة " Sociology of Fashion".

عراقياً، تطرق الدكتور علي الوردي إلى مثل هذه الظاهرة قبل أكثر من مائة عام بخصوص بدلات الرجال الحديثة "الأفندي"، التي لاقت ما لاقت من الإستهجان والنقد والتقريع عندما قدمت إبتداءاً بسبب النزعة المحافظة والتقليدية للمجتمع العراقي في مقاومة الجديد والمختلف حتى أستقرت فيما بعد لتصبح سائدة ومقبولة. وخصص الدكتور حاتم الكعبي كتاباً أسماه "حركات المودة" (1971)، للتعريف بالجوانب الاجتماعية والثقافية للباس في الزمن المعاصر مؤكداً أنّ المجتمع العراقي لا يختلف عن غيره من المجتمعات الإنسانية بقدر تعلق الأمر بالإهتمام بالرداء والظهور به. نظر الكعبي إلى الموضة على أنّها شكل من أشكال الحركات الاجتماعية بسبب شيوعها وانتشارها بين أعداد كبيرة من الناس مما يوجب الحذر في التعامل معها. فقد أثبت استخدام الطرق القسرية والعمدية من خلال تكليف قوى أمنية للتعامل معها فشله في تحقيق الهدف بل وأدى إلى نتائج أخرى غير متوقعة يتمثل أكثرها خطورة في انهيار الثقة بين الطرفين، الأفراد في المجتمع من جهة والقوى الأمنية المكلفة بالعمل فيه من جهة أخرى. ويمكن أنْ يضاف إلى ذلك تنامي مشاعر السخط والإنقباض لدى الشباب مما يدفع إلى مزيد من الكآبة والسوداوية من حيث أنّ طريقة كل واحد منهم بالتعبير عن نفسه كشخص تتمثل فيما يختاره ويود الظهور به.

تبرز خطورة المعالجات الاجتماعية من خلال ملاحظة تعدد الأطراف ذات الصلة. لا وجود لقوة واحدة مؤثرة في المجتمع بل هناك على الدوام منظومة من القوى التي يتطلب منها التنسيق والموائمة فيما بينها ليس للتحايل وتضليل الوسط المستهدف وإنّما إلى تفهم مشاعره وتوجهاته. وقد يكون في غض النظر وتجاهل أمور لا تشكل خطورة على الفرد أو الجماعة حلاً مناسباً يتميز بالحكمة حتى يطور هؤلاء مفهومهم لذواتهم عبر مسيرة حياتهم ويستقروا على النمط الذي يودون تقديم أنفسهم من خلاله. لم يثبت القسر والإجبار فعاليته إلا في حالات استثنائية يتعرض فيها المجتمع إلى مخاطر محدقة قد تتطلب نوع من أنواع ما يمكن أنْ يسمى "التدخل الجراحي"، الذي لا يخلو من نتائج جانبية. فكيف يراد من الشباب الكف عن ارتداء هذا النوع من اللباس في وقت تقدم فيه هذه الموضة وصفة مناسبة مادية ومنعشة لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة وتظهرهم على تماس بالموضة ومقاييسها الشائعة عالمياً. أضف إلى ذلك الضغوط التي يتعرضون لها من خلال تلقيهم هذا الكم الهائل من الدعاية والإعلان من قبل الأسواق التي تروج لها من قبيل: أشيك برمودات تركية، برمودات للرجال والنساء والبنات وحتى العرائس وبرمودات حديثة للحياة الزوجية، إلخ.

تتأثر الموضة أيضاً بدورة حياة الإنسان الفرد حيث يتزيا الأطفال بطريقة مختلفة عن الكبار وكذا الحال فيما يتعلق بالرجال والنساء والشباب والشابات، إلخ. تظهر نتائج العلوم التربوية ما لحرية الإنسان في التعبير عن رغباته بالطريقة التي يقدم نفسه فيها إلى الجماعة وفي مقدمتها الزي أهمية كبيرة على صعيد النضج والإستقرار النفسي والاجتماعي. وتؤكد هذه الدراسات أيضاً أنّ المحرومين من ذلك قد يخزنون عقداً ورغبات تظهر فيما بعد في سن متقدمة يوصف فيها الفرد بـ "التصابي"، وهي الحالة التي يتصرف فيها بطريقة مغايرة عما يتناسب مع العمر الإعتيادي له أو لها. مشكلة نفسية يمكن أنْ تتطور إلى مشكلة اجتماعية تساهم في تكدير حياته داخل الجماعة. هذه واحدة من الملاحظات التي أطلقها المشتغلون في مجال التربية والخدمة الاجتماعية بشأن التأثيرات السلبية لفرض الزي الموحد على الطلبة من الشباب. يرى هؤلاء أنّ فترات الصبا والشباب تمثل مراحل مهمة على التدريب لتنمية مفهوم الذات وتطويرها والتي تعتبر حرية اللباس والإختيار المناسب مع قدر من التوجيه والتدخل المتشارك وليس القسري إلى إنتاج شخصيات مؤهلة للنجاح في المجتمع تخلو من عقبات نفسية تقف عائقاً دون تقدمهم هنا أو هناك. يتعلم العالم من خلال الإستفادة من المختصين في هذا المجال وليس من خلال إصدار الأوامر وتطبيق التعليمات كيفما أتفق.

  كتب بتأريخ :  الأحد 19-05-2019     عدد القراء :  1770       عدد التعليقات : 0