الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ملاواة...

عبرت الأحداث الأخيرة التي أخذت مكانها في عدد من المحافظات العراقية منذ بداية شهر تشرين الأول الماضي حتى اللحظة ومنها العاصمة بغداد والتي تمثلت في تظاهرات شبابية عارمة عما يمكن أنْ يسمى بحالة من حالات الـ "ملاواة"،

بين الدولة والمجتمع. تظهر الملاواة هنا على مستوى ممارسة السلطة من قبلهما من أجل البقاء. للوهلة الأولى بدا وكأنّ الملاواة حدثت لصالح الدولة التي تملك القوة والقانون والحكم ولكنّها بالحقيقة سرعان ما انهارت أمام سلطة الشعب عندما اختار التحرك لتسلم زمام الأمور لإعادة تعديل المسار من خلال ممارسة الضغط بصيغ شتى لعل من أكثـرها أهمية ما يحدث اليوم بالتظاهر السلمي الدؤوب والمتواصل من قبل شرائح شبابية تتحدر من خلفيات اجتماعية ومهنية متنوعة.

من هؤلاء "شعب" العاطلين عن العمل من خريجين وغير خريجين ومشتغلين في مختلف المجالات كالتعليم والصحة والهندسة والعلوم الإنسانية ممن يضيقون ذرعاً بالتهميش والحرمان من فرص التقدم والتطور بسبب امتناعهم عن التحزب والتكتل السياسي النفعي وآخرين يتعاطفون ويتحسرون على عمر مضى قضوه بالخوف والتردد والتسليم بسياسات العزل والإقصاء. سيرتكب خطأ كبيراً أولئك الذين يعتقدون أنّ ما يجري اليوم لا يتعدى أنْ يكون زوبعة سرعان ما تذوي وتغيب. يشكل الشباب في جمهور المتظاهرين ما يقدر بـ 90% منهم، تتراوح أعمارهم ما بين 20-30 سنة، يمثلون ما لا يقل عن 60% من الحجم الكلي للسكان في العراق. أدى تضامن كل هؤلاء وتلاقيهم في ساحات محددة للتظاهر استجابة لطلب الأجهزة الأمنية للمحافظة على أمنهم وحمايتهم إلى تبادل المعارف وفنون الوعي بمشروعية المطالبة بالحقوق المصادرة. وهذا ما جعل من هذه الساحات ورش عمل ومدارس للتعلم والتبادل والتفاعل الإنساني والاجتماعي الخلاق. لا يتظاهر هؤلاء في بلاد أجنبية ولا يطالبون بحقوق لا يتأهلون لها ولا تغريهم فرص محدودة تقدم هنا أو هناك لإسكات البعض منهم في محاولة لشق وحدتهم وتضامنهم. إنّهم يتظاهرون من أجل الحاضر والمستقبل ويتوحدون ليتقدموا ككتلة متراصة يقف قويهم في نصرة ضعيفهم أياً كانت معايير القوة والضعف هذه.

كان للإهمال والتعثر والترهل الذي أصاب مؤسسات الدولة وإستشراء الفساد المالي والإداري أنْ حرم أعداداً كبيرة من الشباب من فرص العمل والتقدم والنماء مما صعدّ من مشاعر الغضب والتمرد للمطالبة بشروط حياة جديدة عبروا عنها بشعارات ومقولات لعل أكثرها شيوعاً وتردداً "نريد وطن ...". بالمقابل أستخدمت الدولة سياسة التغاضي وعدم الإهتمام والتعبير عن تفهم مطالب المتظاهرين في أحسن الأحوال والدخول في معمعمة تحميل مؤسساتها المتعددة المسؤولية كما في إلقاء العبء على عاتق حكومة تتمثل كل الكتل السياسية الرئيسية الممثلة في مجلس النواب فيها. المفاجأة أنْ قاد تصاعد زخم التظاهرات إلى تغيير البوصلة لإجبار الدولة على تقديم مقترحات وحلول متنوعة وصفت بالعاجلة والفورية ريثما يتم التفكر في أخرى أكثر جذرية واستراتيجية! فكان أنْ دعا مجلس النواب إلى اتخاذ قرارات أتسمت بالسرعة بهدف التهدئة من قبيل الضغط على الحكومة لتتحمل مسؤولياتها ومطالبة الجميع بالمساهمة والإستماع إلى مطالب المتظاهرين. وأعلنت الحكومة عن حزمة قرارات لتعيين الخريجين بحسب وجبات وتخصيص منح مالية طارئة وإطلاق الوعود لمنح راتب لكل عائلة لا راتب لديها. ومع أنّ أعداداً قدرت بمليون ونصف المليون شخص تقدموا لشمولهم بمنحة الـ (175) ألف دينار عراقي المخصصة من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بيد أنّ هذه لم تهدئ المتظاهرين بل زادتهم إصراراً على المطالبة بحلول جذرية لتحسين أوضاعهم. وزادت وتيرة الملاواة فكان أنْ هددت بعض الجهات الرسمية المتظاهرين بإستخدام القوة والعنف لفرض النظام والمحافظة على هيبة الدولة وصولاً إلى الإعلان عن فرض حظر التجوال في بغداد من الساعة الثانية عشرة ليلاً حتى السادسة صباحاً. وجاء رد المتظاهرين وأنصارهم من عموم المواطنين حاسماً بأنْ أصروا على السهر في ساحات التظاهر في سابقة لم يشهد لها تاريخ العراق الحديث مثيلاً. أتخذ هؤلاء من ساحة التحرير في بغداد وحواليها وصولاً إلى إحكام القبضة على بناية المطعم التركي الذي أكتسب شهرة أضفاها عليه إعتلاء المتظاهرين لطوابقه الأربعة عشرة والتي تطل على جانبي الكرخ والرصافة اللتين يفصلهما نهر دجلة بكبريائه الخالد.

لعل اللافت في هذا التبادل العدواني بين الدولة والمجتمع أنّ الأخير ازداد تماسكاً مما ساهم بجذب شرائح أخرى من السكان انضمت إليه على نحو توسعي لتشمل طلبة الجامعات والمشتغلين في مختلف القطاعات الاقتصادية بل وحتى طلبة الحوزة الدينية والعتبة الحسينية التي تطوعت لتقديم دعم لوجستي تمثل في توفير حوضيات للماء وبعض المرافق الأخرى. وهذه نقابة الصحافيين العراقيين تدخل ميدان التظاهر الشعبي من باب تنظيم حملات التبرع بالدم للجرحى والمصابين. بالنتيجة بدا واضحاً أنّ الجميع يحاول اللحاق بركب الفائز والمنتصر من جماهير انتفاضة تشرين الشعبية كي لا يتهم بالتخلف عن دعم المطالب المشروعة لعموم المشاركين فيها. وهكذا حسمت الصفحة الأولى للتظاهر. بدلاً من السكون والتهدئة زاد سقف المطالب ليصل إلى محاربة الفساد وتعبئة الأموال ومساءلة قرارات الدولة والتشكيك بمصداقيتها مما أضطر مجلس النواب ليعيد التصويت على قراراته مؤكداً أنّها تحظى بسند قانوني كما في خفض الرواتب وإلغاء إمتيازات الرئاسات الثلاث ومجلس القضاء الأعلى وهيئة النزاهة وكبار موظفي الدولة. وأنضمت محافظات ووزارات لتعلن عن مبادرات اصلاحية كما في إعلان محافظة البصرة عن إنجاز آليات التعاقد للشروع ببناء (110) مدرسة إلى جانب توفير (30) ألف فرصة عمل وتوزيع (1500) قطعة سكنية في محافظة ميسان. وأعلنت محافظة ذي قار عن توفير (8331) فرصة عمل في أقسام التربية لسد الشواغر في المدارس الإبتدائية والمتوسطة والإعدادية في أقضية ونواحي المحافظة إلى جانب (1000) فرصة عمل في مديريات توزيع الكهرباء. وأعلنت اللجنة المالية النيابية عن توفر (210) ألف فرصة عمل إذا ما طبق قانون التقاعد الجديد الذي يقوم على فكرة خفض سن التقاعد إلى 60 سنة بدل 63 سنة. وأستوعبت وزارة الدفاع أكثر من (37) ألف من المفسوخة عقودهم فيما أعلنت وزارة الموارد المائية عن تعيين (1100) شخص وصدر قرار بإعفاء الفلاحين عما بذمتهم من ديون وغير هذا الكثير.

الحقيقة، فإنّ كل الفرص والمبادرات التي أعلن عنها بسخاء غير متوقع تكشف أنّ للفساد المالي والإداري وجهاً آخر أكثر شراسة وعمومية تمثل في مقدار التقاعس والترهل وعدم الإهتمام الذي تتصف به كل هذه الإدارات. فقد كان كل ما فعلته هذه الإدارات أنّها تصرفت تصرف من يبحث في جيوبه ليجد بعض القوت يقدمه لجمهور المطالبين بالحد الأدنى من الحقوق ليقيموا أود حياتهم اليومية. هذا في وقت يضحي فيه سواق سيارات (التكتك) الصغيرة وهم الأكثر فقراً وحاجة بأجرتهم ويساهمون بحماسة لإيصال الناس إلى بيوتهم أو أقرب مكان يمكن أنْ يصلوا إليه ومساعدة الجرحى والمصابين نتيجة إطلاق الغازات المسيلة للدموع من قبل القوات الأمنية بين فترة وأخرى. ظهر في كل هذا بوضوح أنّ إدارات الدولة تهتم بالشكلي والسطحي على حساب الأساسي والجوهري وأنّها أنشغلت بإطلاق العبارات التطمينية على المستوى المجرد وليس الفعل المؤكد للقبض على حيتان الفساد ووقف هيمنة الأحزاب على مقدرات الدولة من خلال مرشحيها المعينين من الوزراء والوكلاء والمدراء العامين وإحالة المتجاوزين منهم إلى القضاء. ولعل في استجابة أعداد كبيرة ووجبات متعاقبة من هؤلاء الأشخاص لقبول المنصب والوظيفة وفق سياسة "الشروط المسبقة"، بحد ذاته ما يسلط الضوء على مدى الهوان الذي بلغه البعض للقبول بمنصب أو وظيفة تؤمن له / لها بعضاً من النفوذ والمال والإعتبار على حساب القيم الأخلاقية والوطنية التي يفترض أنْ يتصف بها المنتدب لشغل وظيفة عامة.

يبقى ملاحظة أنّ ما أتخذ حتى الآن يمثل قدراً محدوداً مما يطمح إليه هؤلاء الشباب. بدون إلغاء تقاعد البرلمانيين وبأثر رجعي لإسترداد الأموال وإنْ كان بالتقسيط سيبقى عامل معيق للموازنة في سبيل تعبئة الموارد وتهيئة التخصيصات المالية لتوفير الوظائف لمن يتأهل لها. كما إنّ في التلكؤ عن تبني مشروع قانون للضمان الاجتماعي يشمل كل المشتغلين في القطاعين الحكومي والخاص وبأثر رجعي أيضاً يجعل مما يسمى بالإصلاحات مجرد خطوات لا قيمة فعلية لها لمعالجة أوضاع الأجيال المتعاقبة من الشباب ممن لم يعودوا ليصبروا ويصابروا على ما تعرضوا إليه من أذى وامتهان وتضييع.

  كتب بتأريخ :  الأحد 03-11-2019     عدد القراء :  1986       عدد التعليقات : 0