الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العراق بحاجة إلى مؤسسات وتنظيمات حديثة

وليس إلى مؤسسات عفى عليها الزمن لشق الطريق صوب الحداثة والتنمية وبناء دولة حديثة

      من العوائق الجدية التي واجهت بناء الدولة الحديثة، هي اعتماد الحكام حتى الآن على قواعد وأسس عفى عليها الزمن في بناء الدولة من أجل هيمنة الفئات الاجتماعية التي لا علاقة لها ببناء الدولة الحديثة وتعرقل عملية التنمية والازدهار والاستقرار. فالانتداب البريطاني، الذي بني في دولتهم نظام ديمقراطي حديث، لم يسعى إلى بناء حديث للدولة العراقية. فهم من أجل أن يؤسسوا قاعدة اجتماعية مهما صغر حجمها من العراقيين من أجل تأمين سيطرتهم وهيمنتهم على كل مرافق العراق. ومن بين ما أسسوه هو بناء مؤسسات عشائرية وسن قانون دعاوي العشائر وتوزيع الأراضي الأميرية على "رؤساء" العشائر ليضمنوا ولائهم للإدارة البريطانية بعد أن فشلوا في ذلك بعد إندلاع ثورة العشرين. وبعد أن فشلوا في اجتذاب وجهاء القوم وتحويلهم إلى مرتكزات عشائرية توجهوا إلى بعض العراقيين، ومنهم حطاب في أطراف الكاظمية حيث سلموه سيارة وبضع بنادق و عكال مذهب ليتحول بين ليل وضحاها إلى شيخ عشائر.

   وقتها سخر الصحفي العراقي الساخر نوري ثابت صاحب مجلة "حبزبوز" الفكاهية من هؤلاء "الشيوخ" وكتب السطر التالي:

   گومن يا حبايب جاچن ابن سهيل      من بعد المطية راكب طرمبيل

   هذه التقليعة التي اخترعها الانجليز لم تسعفهم في فرض استقراراهم في العراق ، وراح حكامنا "الوطنيين" بأتباع الأسلوب نفسه بأمل أن تستقر سلطتهم ولكن دون جدوى. فشهد العراق عشرات الانتفاضات التي أسقطت حكومات ومزقت معاهدات كالذي حصل في وثبة كانون عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث وانتفاضة تشرين عام 1952 وانتفاضة 1956 وإضراب عمال كاورباغي و أج ثري واضرابات عمالية في الميناء والنفط والسكك وغيرها دون أن تستطيع الحكومة إخماد صوت العراقيين ومطاليبهم، إلى أن أستطاع الشعب بدعم من القوات المسلحة الإطاحة بالنظام دون أن يتحرك أي "رئيس عشيرة" ولو بالكلمات لنجدة ذلك الحكم الذي اعتمد العشائرية والطائفية في ديمومة حكمه.

   إن الحكام الذين لا يتمتعون بالحد الأدني من الدعم الشعبي والشرعية لا يتعضون من دروس التاريخ، فراح من خلفهم وعقب الإطاحة بالحكم الوطني في إنقلاب 8 شباط المشين، إتباع نفس البدعة العشائرية مع إضافة بعض توابل من الطائفية بأمل أن بستمروا بحكمهم، وآخر من أعقبهم في هذا الخيار الفاشل هو صدام حيث أصبح ظهوره في اجتماعات شكلية لرؤساء العشائر مشاهد مملة في التلفزيون العراقي. وما أن حلت الساعة وسقوطه المدوي في نيسان عام 2003، تكرر المشهد وراح "رؤساء العشائر" يتوزعون على المخابئ دون أن يمدوا يد العون لرئيس العشيرة صدام حسين.

   ولم يتعض من جلس على كراسي الحكم بعد انهيار الديكتاتورية من الاضرار التي تلحق بالمجتمع جراء الاستمرار بهذه الممارسات، بل زادوها تشريعاً بحيث أنشئت مكاتب رسمية باسم مكاتب شؤون العشائر في وزارة الداخلية، وجرى اعطاء صلاحيات تشريعية وتنفيذية ومن ضمنها شرعية حمل مختلف أنواع الأسلحة لرؤساء العشائر، وهكذا برزت إلى السطح وانتعشت مظاهر خطيرة مثل "الفصل" و "الفصلية بالمصاهرة الاجبارية" و"الدگه" و"الزواج بالاكراه" و"الگوامة" و "العطوة" و "الفرشة" و "الفريضة" و "الدية" وغيرها. ولكن كل ذلك لم يعالج الخلافات بين رؤساء العشائر، مما شدد من الصراع بينهم إلى حد استعمال اسلحة ثقيلة ومتوسطة في "الخلافات بين رؤساء العشائر"، مما خلق مخاطر وكارثة أمنية واجتماعية وإشاعة أجواء ارهابية طالت عوائل أمنة ومقتل أناس ليس لهم علاقة بأطراف النزاع او قطع طرق عامة ورئيسية والحجة البحث عن منتمين للعشيرة المعادية مع العلم هم ليسوا من المسببين او لا توجد لهم انتماءات عشائرية سوى ذنبهم لقبهم العشائري في هوية الأحوال المدنية، وأصبح هذا المشهد مألوفا على واجهة بعض الدور والمنازل والمحلات عبارة ”مطلوب عشائرياً لا يباع ولا يشترى العقار” أو تهديم منازل أو تهجير عوائل أو انتشار مسلحين بمنطقة معينة أو اشتباكات لعدة أيام بين عشيرتين، او اخذ فصل عشائري من بعض الاجانب بتهمة الاساءة لفرد من العشيرة.

   واستشرت في العراق مظاهر الخوف والرعب بين الأطباء عند معالجة المرضى جراء شيوع هذه المظاهر العشائرية السيئة. وذلك لأن المريض إن توفي فقد تقيم عشيرته دعوى قضائية على الطبيب وتتهمه بالتقصير فتوجب عليه دفع الدية. وهناك المئات من الملفات في أروقة الأجهزة القضائية ضد الأطباء العراقيين. ويرُوى عن أحد الأطباء أنه قال لامرأة إنها متعبة نفسياً فقام زوجها بتطليقها بحجة مرضها النفسي، فغضبت عشيرة المرأة على الطبيب وطالبته بالتعويض وإغلاق عيادته لأنه وصف ابنتهم بالجنون وكان سبباً في تطليقها، علماً بأنّ الأخطاء الطبية تحدث للعراقيين في خارج العراق أيضاً، لكن لم يلاحظ منهم مطالبات عشائرية هناك. وقد أعلنت مصادر طبية في البصرة أنّ 250 طبيباً قد تركوا وظائفهم في الدوائر الحكومية تجنباً لتهديدات العشائر، وقد كان تعليق أحد رؤساء العشائر على هذا الخبر "إن الدولة فشلت في فرض سطوتها كما فشلت في محاسبة الاطباء في حال التقصير مما ترك ضحايا الاخطاء الطبية يلجأون إلى العشيرة بدل القانون!!!

   هذا المشهد الخطير لهيمنة العرف والتقاليد العشائرية، أدى إلى تدهور المؤسسات القضائية وشيوع الفساد وما رافقها من أزما عميقة في المجتمع.

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 26-11-2019     عدد القراء :  1944       عدد التعليقات : 0