الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عيد الحب في عام الظلام

“ليرى أمه واقفةً وَسَط  المدججين بالسلاح، بكل شموخ وكبرياء، دون توسل أو أنحناء، تنظر إلى عيون ابنها غير عابئة بصراخ إخوتهِ الصغار”

سمع صخباً وضجيجاً وهو في الحمام يغتسل. أغلق صنبور الماء، وتوقفت يداه عن الحركة كي يسمع ما الذي يدور خارج جدران الحمام. ميز الأصوات الهمجية وهي تُعربد ” وين ابنچ؟؟؟” “انه في الحمام، على كيفكم”،  “هسه أطلب منه يتنشف ويطلع”. طرقت عليه باب الحمام، وقالت: “يمه خَلْص بساع ونشف نفسك، أجوْ عليك المقاومة الشعبية”، وإذا بأحدهم ينهرها بصوت عالٍ: “خاله، إحنا مو مقاومة شعبية، إحنه حرس قومي” ، “عفواً ابني آني شمعرفني”. كان يتوقع قدومهم، ولكن ليس بهذه السرعة. حيث تمّ اعتقاله قبل أيام في باب الثانوية الشرقية، من قبل زملائه الطلاب، الذين أعتدوا عليه بالضرب المبرح، وأخذوه بسيارة أحدهم إلى نادي النهضة الرياضي، الذي تحول إلى مقر للحرس القومي كغيره من الأندية الرياضية، ولقيادة منطقة الكرادة الشرقية ذات الأهمية ألاستراتيجية. أستطاع التخلص منهم في حادث الاعتقال الأول بأعجوبة وساطة لا تنس أفضالها.

ناولته امه ملابس دافئة، لبسها على أستعجال، وخرج من باب الحمام، ليرى أمه واقفةً وَسَط  المدججين بالسلاح، والمنفوخين بغرور الغزاة العتاة. واقفة وسطهم بكل شموخ وكبرياء، دون ضعف أو بكاء، دون توسل أو انحناء، تنظر إلى عيون ابنها غير عابئة بصراخ إخوته الصغار. قال لنفسه: هذهِ أمي، ولو لم أكن أعلم أنها لا تقرأ ولا تكتب، لقلت أنها قد قرأت قصة “الأم” لمكسيم  خوركي ألف مرة وتفوقت عليها.

حينما خرج من الحمام، نظر إليه بعض الحرس باستغراب، لأنهم لم يعرفوا الشخص الذي جاؤوا لاعتقاله. تصَوروه عملاقاً ذو عضلات مفتولة كهرقل أيام زمان، وشوارب مبرومة كشوارب ستالين، وربما يلبس عدسات رؤيا من كثرة القراءة والكتابة كعدسات تروتسكي، أو انه ذو شعر كثيف منفوش، كشَعر شاعر الشعب بحر العلوم. إلا انهم صُدموا حينما رؤوا ضحيتهم، بوداعة الحمل الصغير، وأناقة الطالب المجتهد الذي يجلس دائماً في الصفوف الأمامية. هل خجل احدهم من نفسه؟ لا اعتقد ذلك. إلا انهم أخذوا هذا الحمل الوديع إلى حضيرة الذئاب المفترسة، دون أي ورعٍ  او عذاب للضمير.

خرج معهم من باب الدار، حيث اذهله المنظر، ثلاث عربات عسكرية مسلحة مملوءة بالحرس القومي المدجج بالسلاح، كي يعتقلوا، مراهقاً لم يبلغ الستة عشر عام. الجيران واقفون أمام أبوابهم، لا يعرفون السبب، تفاجؤوا حينما شاهدوهم  يقتادون شاباً يافعاً، معروفاً في محلته بحسن أخلاقه، واستقامة سلوكه، ومن افضل شباب الجيران.

أقتاده الحرس إلى نادي النهضة الرياضي ثانية، وطلبوا منه ألانتظار في ساحة النادي المكشوفة. كان الجو بارداً ندياً، مع رذاذاتٍ من المطر تتساقط  بين الحين والحين. صادف ذلك يوم الخميس الرابع عشر من شباط “يوم الحب” عام 1963، عام لا حُب فيه ولا سلام ولا وئام. بدأ يحسب  ألف حساب، هذه المرة لا تنفع لا واسطة ولا صديق ولا قريب ولا جاه ولا مال. وتذكر “بافل” في قصة الأم لغوركي، لا بل تذكر أمه الشامخة بكل هيبة وعنفوان، واستمد منها معنوية لا يقهرها عتاة ذلك الزمان. تحدث معه احد المشرفين الكبار على أركان وكر النهضة الظلامية، حول الخلاف العقائدي بين الصين والسوفييت، حاوره بجدارة أذهلت مسؤول الزمان، الذي عُرف بعد ذلك انه ليس إلا “صلاح عمر العلي التكريتي”، من توابي البعث في هذا الزمان.

فرش الظلام الرطب عتمته، في تلك الليلة من ليالي التسعة أشهر المقيتة، وفي هذه الأثناء جاؤوا بالعديد من المعتقلين الذين جرى ترحيلهم  الى حيث لا يعلم أنسن ولا جان، إلى أن جاء دوره. نقلوه بعد الساعة العاشرة ليلاً إلى بيت خرب مهجور دون علامة أو رَقْم أو بيان، قريب من شاطئ أبي نؤأس في منطقة البوشجاع في الكرادة الشرقية. أنزله المدججون بالسلاح، حماة الوطن من خطر “المثقفين المخلصين” على مستقبل عروبة وادي السلام،  في تلك العَتَمَة من الليل، في ذلك الدِّهْلِيز المظلم، وطلبوا منه أن يجلس بانتظام وانتظار لدوره كي يحل في ضيافة المحققين اللئام.

5 شباط 2021

  كتب بتأريخ :  الجمعة 05-02-2021     عدد القراء :  1995       عدد التعليقات : 0