الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
عندما كان السياب شيوعياً

من بين الكتب اللافتة كتاب بدر شاكر السياب "كنت شيوعياً" الذي أصدرته دار الجمل بألمانيا العام 2007. هو مجموعة أوراق نشرها السياب في جريدة "الحرية" البغدادية العام 1959، وتضمنت فصولاً من معاركه مع الحزب الشيوعي العراقي بعد أنْ كان من بين أبرز مثقفيه مطلع الخمسينيات.

والغريب ان تلك الصحائف بقيت طي الكتمان كل هذه المدة، رغم تعرّض الشيوعيين في العراق إلى حملات إعلامية مختلفة خلال السبعينيات والثمانينيات وحتى قبلها.

تظهر هذه الذكريات بعد أفول  نجم الشيوعية، لتكتسب أهمية مختلفة هذه المرة، أهمية تاريخية تخص سيرة رائد الحداثة الشعرية العربية.

لعل هذا الكتاب أوضح صورة السياب المشوشة عند القراء رغم صدور بعض الكتب التي عرضتها على نحو غير دقيق، وبينها كتاب إحسان عباس الأشهر ، ورسائل السياب التي نظن أنها تستكمل في جانب منها أزمنة هذه الأوراق.

السياب الذي أرخ ظهوره اللافت دخول أبناء القرى الجنوبية إلى الحياة الثقافية، بعد أن كان أكثر المثقفين غير التقليديين من أبناء بغداد، فكان شعره المتصل بعواطفه الشخصية، يوحي بأنه نشأ يتيماً لعائلة فقيرة وأمية من ريف البصرة. في حين ترشدنا سيرته هذه إلى مستوى من التعليم والرقي والمدينية في عراق الخمسينيات حتى في البساتين والأرياف المعزولة. لعل ما نشهده اليوم من عودة إلى الوراء في مظهر الناس ومخبرهم في قلب العاصمة بغداد، ما يرجّح دوافع المقارنة عند قراءة هذا الكتاب.

يأتي الكتّاب والشعراء والفنانون ويذهبون، وتبقى كتب حياتهم شبه مقفلة، وعلى وجه الخصوص في العراق، حيث رحل الرواد من دون أن نعرف عن حياتهم إلاّ الجزء اليسير. وإلى اليوم يختلف الناس حول المدينة التي قدم منها البياتي إلى بغداد، وما هو منحدر سعدي يوسف العائلي، ومن هو  جواد علي،  أو محسن مهدي، ومن أين أتى فائق حسن  وسواهم من الأدباء والفنانين المشهورين الذين غادرونا من دون معرفة ما تعرفه الشعوب عن مشاهيرها.

هذا الكتاب لا يدلنا تماماً على شخصية السياب الاعتيادية، فهو كُتب في ساعات غضب تضفي على ملامح الشاعر الكثير من العتمة والتشوه، ولكنه يقترب بنا من تفصيلات كثيرة في حياته ومزاجه وقيمه التي تضمرها ثقافته أياً كان مصدرها.

هناك ما يدفع إلى الاعتقاد بأن السياب في هذا الكتاب كان حزبياً ضيق الأفق وإن غيّر مواقع  حزبيته، لا لكونه طرح حججاً ضد الشيوعيين أكثرها ضعيفة وتقليدية وأقرب الى حكي الشارع، بل لأنه أضاع فرصة فكرية ثمينة لفتح حوار ناضج وموضوعي حول علاقة المثقف بالأحزاب، وعلى وجه الخصوص، الحزب الشيوعي العراقي الذي ارتبط به ومارس العمل فيه أكبر مجموعة من المثقفين العراقيين منذ نشوئه حتى فترة متأخرة.

بيد أن الكتاب وثيقة من وثائق حياة السياب الأكثر وضوحاً لأنه يحوي شذرات من يومياته بخط يده، وهي تتفوق من حيث الأهمية على علاقته بالسياسة.

يتحدث السياب في النص عن حياته عندما بدأ النشاط شيوعياً في سن مبكرة، متطرقاً إلى بيت جده وأعمامه الفاعلين في تنظيم البصرة الشيوعي، وهو عرض يظهر فيه أسلوب السياب النثري الذي يتسم بالقوة والجمال في مواقع، والضعف والهزال في أخرى. ثم يبدأ مسلسل التعرّض إلى الشيوعيين وحزبهم ويستند فيه الى مبررات ثلاثة: الأول كونهم لا يؤمنون بالأديان، والثاني إباحيتهم الجنسية، واستخدامهم النشاط الحزبي والنساء المنخرطات فيه لإشاعة الأخلاق السيئة في المجتمع. والثالث كونهم من مناصري اليهود والنشاط الصهيوني ومن معادي العروبة ومروجي الفكر الشعوبي.

ولعل أسلوب عرض الحجج وتطورها يشي بثقافة السياب وتدرّجها من المنطق التحريضي البسيط الذي يقوم على التشهير وتلفيق القصص، إلى الأسلوب الذي يقترب فيه من صراع الأفكار عندما يعرض رواية جورج أرويل  (1984). ولعل هذه الرواية الرائعة التي قرأها بعد نشره الجزء الأكبر من مقالاته، تشير إلى مفارقة أساسية في اختلاف المحاجة التي يستعين بها السياب، بين المنطق الأوربي والمنطق العربي. فأرويل في مجابهة الفكر الشمولي عموما وفكر الشيوعيين على وجه الخصوص، يستخدم صورة (الأخ الأكبر) ضمن ترميز الى أسلوب العقائد الشمولية في عبادة الزعيم. في وقت يكيل السياب المديح لشخص الزعيم الأوحد "العبقري" كما يسمي عبد الكريم قاسم، مستثيراً  همة الرعاع حيث يعتبرهم جورج أرويل في روايته، أهم أسباب انحطاط العقائد وهيمنة اللامنطق في الدولة التوليتارية.   يستشهد السياب بسخرية جورج ارويل من قائمة الممنوعات التي يضعها، بما فيها حرية الحب، في وقت يستخدم  هو أي السياب، مخيلة ريفية ساذجة لتصوير الاجتماعات الحزبية على أنها حفلات جنس ودعارة. أما علاقة الشيوعيين باليهود والقوميات غير العربية فشهادة السياب في تفاصيلها تبدو لصالح الشيوعيين لا ضدهم. فهذا الكتاب إنْ أخرجناه من إطار البروباغاندا، وأخذناه بعين الجد، من بين الكتب الأكثر شوفينية وتعصباً للعروبة، وتمجيداً للطغاة، وبالطبع هذا لا ينطبق على السياب في واقع الحال.

هناك الكثير من الأفكار في هذا النص التي كُتبتْ بمداد المزايدات ، وبعضها لا  يتفق مع روح السياب الشعري والبعد الإنساني لأدبه ،فالشاعر الرقيق يعيب على الشيوعيين جبنهم وتخاذلهم امام آلة التعذيب في السجون، وفي كل فقرة يعيّرهم بشعارات السلام. والسياب الذي كان يعاني مرض السل يقول بالحرف عن رفيقه عبد الكريم تويني " ملأت إصابته بهذا الداء الوبيل نفسه بالحقد والبغضاء"، وهو كلام قاله المتحاملون والجهلة عن السياب نفسه.

يسخر الشاعر المأزوم من ديوان عبدالوهاب البياتي "اباريق مهشمة" الذي طُبع بمطبعة الثقافة الجديدة مجلة الحزب الشيوعي التي كان يحرر السياب صفحاتها الأدبية، فتولاها البياتي بتوجيه من صلاح خالص رئيس تحريرها الجديد الذي انشق عن الحزب لاحقا في مفارقة أدبية. لعل تلك الحادثة وراء طلاق السياب من الشيوعية، حسب ما كتب بعض معاصريه، وبينهم من نسب الأسباب الى ارتباطه بالمجلات اللبنانبة ذات الاتجاه المعادي للشيوعية وبينها "الآداب" و"شعر" و" حوار " والأولى ظهر من مطابعها أشهر ديوان له "إنشودة المطر" ثم مجلة "شعر"  و " حوار " التي ارتبطت بمنظمة حرية الثقافة الأميركية  ، حيث أصطحب السياب مجموعة "شعر" وبينهم سلمى الخضراء الجيوسي وأدونيس إلى لقاء هذه المنظمة  الأميركية ليلقي خطابه الشهير ضد الشيوعية.

سنرى في الكتاب الكثير من الآراء التي تخص الشعر والشعرية، وهي في كل الأحوال لا يمكن أن تُحسب إلاّ على ساعات الغضب التي كتب فيها السياب مادته، فهو ينكر الشعر عن إيلوار ونيرودا وناظم حكمت لكونهم شيوعيين، ويعقد مقارنة بينهم وبين ت. س. إليوت وإديت ستويل، وهي مقارنة لا تستوي في ميزان الخلط بين الشعر والسياسة.

يبدو السياب في تصديه لشعبوية الشيوعيين وتعصباتهم أكثر شعبوية وتعصباً منهم، ولكن من يطلب من الشاعر أنْ يتبع بروتوكولات الحياة كما يريده الناس.

  كتب بتأريخ :  الأحد 19-09-2021     عدد القراء :  1584       عدد التعليقات : 0