الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
فهــــــود بين نخـــــيل الكوفــــــة

تعرضت مدينتي النجف والكوفة الى حملة إعتقالات وبطش وتعذيب واسعة النطاق، بعد ردة 8 شباط 1963 الدموية، وذلك بسبب اعتبار المدينتين من المدن ذات النفوذ العالي للفكر والحركة الشيوعية والوطنية في تلك السنوات. وجدير بالذكر ان العديد من قادة الحزب الشيوعي العراقي ومناصريهم من مدينة النجف الأشرف، فعلى سبيل المثال لا الحصر الشهيد حسين الرضي (سلام عادل) والشهيد حسن عوينة، وشاعر العرب  الكبير محمد مهدي الجواهري وشاعر الشعب محمد صالح بحر العلوم. أما مدينة الكوفة فقد خطت لنفسها ملحمة ثورية بطولية أبان تلك الفترة السوداء من تاريخ العراق. حيث أستطاعت مجموعة من المناضلين الذين ترجع اصولهم لعوائل في ريف الكوفة، الأنسحاب من المدينة، واللجوء الى بساتين وأهوار الكوفة تجنباً للأعتقال والتعذيب والأضطهاد المستمر الذي كانت تتقنه وتتفنن به عصابات الحرس القومي.  فهودٌ في مقتبل العمر قرروا ان يخوضوا تجربة المقاومة المسلحة بقرار محلي وربما شخصي، حيث كانت التنظيمات الحزبية معطلة على المستوى القطري.  

كانت المنطقة التي تجمع المقاومين لحكم البعث تمتد ما بين الشامية والكوفة ونهر الفرات. وهي مناطق زراعية وبساتين نخيل وأهوار. وجد أهالي هذه المنطقة من فلاحين ومعدان وأبنائهم من الطلبة أنفسهم في مجابهة مع السلطة، التي اغتالت قادة ثورة تموز عام 1958 التي شرعت لهم قانون الأصلاح الزراعي وانهت تسلط الأقطاع عليهم اجتماعياً وأقتصادياً. وكان للشيوعيون إنتشار واسع بين هذه المجتمعات الصغيرة من خلال التنظيمات الحزبية والجمعيات التعاونية وأتحاد الفلاحين.  لذلك حينما جهزت سلطات البعث حملتها الأولى على قرية “بور سعيد” في ريف الشامية، لملاحقة المقاومين لقتلهم او اعتقالهم، لم يجدوا فيها سوى النساء والأطفال، لأن أهالي المنطقة علموا بالهجوم مسبقاً.

قرية بور سعيد

قرية بور سعيد، الشامية، موقع الهجوم الأول على الثوار

من بين المقاومين الأبطال كان الرفيق نجم عبد  أبو اللول (ابو واثق)، الذي إنخرط بالنشاط السياسي منذ نعومة اظفارهِ. كان من الشيوعيين الذين لعبوا ُ دوراً نشطاً هو وعائلته في مقاومة إنقلاب 8 شباط الدموي 1963. كان بصحبته الرفيق باقر إبراهيم والرفيق عدنان عباس الذي سهل  تحركاتهم  في هذه المواقع، ولعب دورأَ مشهوداً في تعبئة وتنظيم الشباب وتشكيل فرق المقاومة، وتنسيق الإرتباط بين المدينة والريف، وسخر كل إمكانيات أفراد عائلتهِ واقربائهِ الطيبين لهذه المهمات. ولهذا المكان أهمية إستثنائية، لموقعهِا المطل على نهر الفرات وقربهِ من مدينة الكوفة. لقد اضحت المنطقة بأكملها منطقة حاضنة وبيوت جميع الرفاق وعناصر المقاومة مفتوحة لتسهيل عمل المقاومة على الرغم من بطش سلطة الإنقلاب، وحمامات الدم التي أغرقت فيها البلاد.

بيئة الثوار مدينة الكوفة ومحيطها من البساتين والقرى

بيئة الثوار مدينة الكوفة ومحيطها من البساتين والقرى

وحينما أصاب حزب البعث والحرس القومي ذعراً شديداً بعد حركة 3 تموز 1963 الثورية في معسكر الرشيد بقيادة الشهيد البطل حسن سريع، أدركوا انهم مهددون بالسقوط، بعد ان كاد عريف في الجيش ان ينجح بحركته. بعد تلك الحركة  شن الحرس القومي حملة أستباقية واسعة جديدة ضد الوطنيين والشيوعيين على عموم الوطن. فأعتقلوا الذي لم يُعتقل بعد، او الذين اعتقلوا واطلق سراحهم. وبناء على ذلك كان لابد من ان يتم اعتقال المناضلين الهاربين في ريف الكوفة.

لقد حاول الحرس القومي اعتقالهم عدة مرات، وكل مرة يفشل بسبب وعي المناضلين والحماية التي تلقوها من اهالي المنطقة الطيبين المتعاطفين معهم. هذه المرة استخدم الحرس القومي اسلوب الخديعة، حيث نصبوا لهم فخ عن طريق احد المتخاذلين الذي تظاهر بالرغبة في الألتحاق بالثوار. وبذلك تمّ التخطيط للحملة الثانية بشكل متقن وخبيث. ذهب عصر يوم العاشر من آب عام 1963، كل من المناضلين “حسين شعلان الماضي” و”عباس ابو اللول” وأبن أخيه “نجم أبو اللول”. ذهب ثلاثتهم على موعد محدد في منطقة “ألبو نعمان” القريبة من الكوفة، لانتظار شخص يريد ان يلتحق بالثوار،  فاجأهم في الموقع أكثر من ثلاثين مسلحاً من الشرطة السيارة وعناصر الحرس القومي، تحت أمرة محمد رضا الشيخ راضي. وحينما أحس المناضلين بالفخ الذي وقعوا فيه، وانهم مطوقين، رفضوا أوامر التسليم وهموا بالأنسحاب، إلا ان القوة المداهمة فتحت النار عليهم ، فما كان منهم إلا ان يردوا بالمثل وتمكنوا من أصابة قائدهم محمد رضا أصابة بليغة، إلا ان المناضل “عباس ابو اللول” الذي كان في المقدمة سقط شهيداً، وتعرض ابن اخيه نجم ابو اللول لأصابة بليغة في جسمه. عندها اخذت عناصر الشرطة والحرس القومي، بإطلاق النار عشوائيا بكل الإتجاهات، فسقط رجل بريء إسمهُ “عبد النبي” الذي كان  يعمل في بستانهِ، واعتقل الحلاق “عليوي” الذي أفترضوا إنهُ يقدم العون والمساعدة للمقاومين. وهبّ اهل قرية “ألبو النعمان” رجالاً ونساءاً يتقدمهم شيخهم الشجاع حامي حمى تلك الديار “عباس متعب النعماني” على صوت الرصاص، وتصدوا لتلك العصابة الطارئة غير آبهين بإطلاق النار الكثيف، مما سهل إنسحاب حسين شعلان والمصاب نجم ابو اللول الى مكان آمن. كانت معركة مشرفة بين فهود الكوفة وذئاب سلطة فاشية جائرة، أبليه فيها المناضلون والبونعمان البواسل، بلاءً حسناً ومشرفاً.

مضيف البو النعمان

طبر سيد جواد

انسحب نجم أبو اللول الى منطقة طبر سيد جواد التي إلتجأ اليها بعد إصابته في الإصطدام، حيث  قامت بنت الحاج الشهم “عبد عگيلي”  بتوفير العلاج لهُ، عن طريق قريب لهم يعمل في مستشفى الفرات الأوسط. ولما انكشف امر ابنته ارسلها الى ناحية القادسية لاخفائها في بيت شقيقه، ولم ترجع إلا بعد سقوط الحرس القومي وحزب البعث في اليوم الثامن عشر من شهر تشرين الثاني عام 1963. كان نجم ابو اللول ورفاقهِ مرحب بهم في المنطقة، ويقضي جل وقته في حديقة الحاج عبد عگيلي. بعد مدة تسرب الخبر للحرس القومي عن مكان تواجده، مما أدى الى اعتقال عبد عكيلي، الذي جرى تعذيبهُ وملاحقة إبنتهِ، لكنهُم لم يحصلوا منه على اية معلومات تؤدي الى اعتقال نجم او غيره من الرفاق.    

عاد الحرس القومي بأسرع ما يمكن الى مستشفى الفرات الأوسط ومعهم قائد الحملة المصاب “محمد رضا الشيخ راضي” الأخ  الأصغر لـ “محسن الشيخ راضي” عضو القيادة القومية والقطرية لحزب البعث، والمسؤول حزبياً عن قصر النهاية سيئ الصيت. وصلوا المستشفى مذعورين خائفين بما حصل لمحمد رضا شيخ راضي، محاولين من خلال الصراخ والصياح والتهديد للطاقم الطبي ان ينقذوا حياة مصابهم الذي كانت المنية قد وافته برصاص الثوار على ارض المعركة. وفي حديث مباشر لي مع احد قادة الحرس القومي الذين شاركوا في تلك الحملة في حينها عن سبب رعبهم، قال لي بالحرف الواحد إننا لسنا خائفين من الهاربين (الثوار)، إنما نحن مرعوبين من نقمة وانتقام محسن الشيخ راضي منا، الذي سيحملنا مسؤولية مقتل اخيه.

#الكوفة       #1963      #الحرس_القومي        #محسن_شيخ_راضي

المصادر:

نجم أبو اللول

أحمد القصير (أبو ماجد)

هذا ما حدث /  عدنان عباس

رسالة غير منشورة /عارف الماضي

حديث /جواد عبد عگيلي

  كتب بتأريخ :  الخميس 16-12-2021     عدد القراء :  1317       عدد التعليقات : 0