الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التنوير والفكر الحر
بقلم : فيصل لعيبي صاحي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

رحل اليوم واحد من حملة لواء النقد والتفكير والترجمة في عالمنا العربي المحاط بالحدود والأسوار وحراس العقيدة والأخلاق الكذبة. جابر عصفور المفكر التنويري والناقد الشجاع لعالم لا يزال يرزح تحت سلطة الماضي المتخلف والتقاليد البالية والظلامية المكلكلة على عالمنا الحزين.

جابر عصفور هو سليل مدرسة العميد البصير طه حسين، مؤسس العقل النقدي في المجتمع المصري والعربي المعاصر، وصاحب مشروع الشك في المسلمات الجاهزة والمعلبة والتي مضى على صلاحية إستخدامها قرون عدة.فمنذ ردة السادات وبروز الموجة الدينية الأكثر تطرفاً وضراوة، واجه المتنورون العرب في مصر وغيرها من بلدان الشرق التعيسة هجمة غير مسبوقة من العنف الدموي ، راح ضحيتها العديد من اصحاب العقول الحرة والداعية لتجديد الخطاب الفكري والفني والديني في عالمنا هذا. فكان الرد هو الإغتيال والتصفية الجسدية والقمع المنظم، ساهمت فيه دول وحكومات واحزاب تسربلت بالدين والعقيدة الدينية وإدعاء الطهارة والنقاء الفكري الإسلاموي. امامنا تحضر اسماء شهداء العقل ، ابطال التصدي للخزعبلات والشعوذة والتخلف، مثل حسين مروة ومهدي عامل وفودة وكامل شياع وغيرهم.

كانت مهمة المفكر والناقد والكاتب والمترجم د. جابر عصفور غير سهلة وليست بنت يومها، فهو أمام ركام هائل من التقهقر والإنحطاط والتقاليد الإسمنتية الثقيلة .لكنه ، وهو مستنداً الى روادها أمثال سهير القلماوي وشكري عياد وعبد العزيز الأهواني وغيرهم ، هؤلاء الذين تتلمذوا على يد البصير طه حسين خريج السوربون وحامل لواء الشك الديكارتي في حرم الجامعة المصرية. فكانت المساءلة والتساءل وطرح المسلمات على بساط البحث من أبرز مهام فقيدنا الراحل د. جابر عصفور، فقدم لنا عشرات المقالات والأبحاث والكتب التي تعالج هذه المسلمات والثوابت . كان تحديه منهجياً ونظرياً لكل مخلفات الماضي وقيوده المستحكمة بالعقل العربي المعاصر، ولهذا كانت أعماله تصب عموماً في إشكاليات الحاضر وهيمنة الماضي عليه. فقدم لنا كتباً متميزة ونوعية تلامس هذه القضايا وتقدم لها بعض الحلول الممكنة. مثل :

1 - الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي 2 - زمن الرواية 3 – أنوار العقل 4 – دراسة في التراث النقدي 5 – مفهوم الشعر 6 – مستقبل الثقافة 7 – دفاعاً عن العقلانية وعشرات المقالات والأبحاث ومالمحاضرات والندوات التي ساهم فيها في مصر والعالم العربي والعالم.

كان جابر عصفور مقتنعاً بعدم وجود حكومة عربية تؤمن بالعقل والتنوير ، وكانت إشكاليته أو مأساته ،هي كيفية موائمة ما يؤمن به مع المهام التي تسنّمها خاصة عندما اصبح وزيراً للثقافة مرتين ودون ان يحقق ما كان يطمح ان يحققه، وهو هنا عكس ما قام به العميد طه حسين في مجال التربية والتعليم والتي كانت تسمى وزارة المعارف عند توزيره لها وقتها، حين كان امام د. طه حسين ان يغيّر كامل المنهج التربوي الذي السائد من أيام ما قبل الحرب العالمية الأولى ، أي التقاليد التي كان الأزهر يمسك بمقودها. فخاض معركة التحديث والمدنية بصلابة وكانت وظيفته كوزيرعاملاً مهما في ترسيخها وكذلك وجود شيء من اللبرالية وقتها ، اما فقيدنا د. جابر عصفور ، فقد إستوزر في زمن كانت القوى التقليدية والمجموعات التكفيرية قد إشتد عودها بعد مجيئ السادات وإطلاق العنان لها وتسميته بالرئيس المؤمن.فكانت المهمة اصعب من وزارة ثقافة ضعيفة شحيحة الميزانية وغير قادرة على مواجهة هذا الطغيان والهيمنة على الشارع المصري والذي كان قد ارعب حتى الطبقة الوسطى والمثقفين منهم بالذات. فحاول ان يمد الجسور بينه وبين وزارة الإعلام ووزارة التربية والتعليم ووزارة الأوقاف التي كانت تملك اكثر من نصف مليون واعظ ، في شتى مناطق مصر المختلفة. لكن هذا لم يجدي نفعا كما يبدو،فعندما طرح فكرة التنوير والعقلانية على المجتمع المصري من خلال ما كتبه وألقاه من محاضرات وندوات وترجمات لأهم المدارس النقدية الغربية و الإستفادة منها دون تقليدها أو إستنساخ ما قدمته للبشرية من مقترحات نافعة. كانت الطرق غير مؤدية وغير صالحة للسيرفيها وتبين له أن فضيحة فشل الأزهر، المؤسسة الأكبر في العالم الإسلامي والعربي في تجديد الخطاب الديني يعتبر فضيحة لا تقارن بكل ما جرى حول هذا الأمر، فادرك ان تعاون الإستبداد السياسي مع الإستبداد الديني كان أهم معوقات التقدم والتمدن والتحديث في عالمنا العربي الراهن وقد توج نتاجه الفكري التنويري في كتابه الهام : دفاعاً عن العقلانية والذي اكد فيه على الدولة المدنية الديمقراطية وفصل الدين عن الدولة وجعل العقل هو المرشد والقائد في عملية التحديث هذه .

  كتب بتأريخ :  الإثنين 03-01-2022     عدد القراء :  1389       عدد التعليقات : 0