الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العنف ومتلازماته

المتلازمة أو المتلازمات هي مجموعة الظواهر والأعراض التي ترتبط ببعضها البعض، وتتزامن بالظهور مع بداية المرض. المتلازمة، مصطلح طبي رُحِل حديثا إلى عالم السياسة والاجتماع والثقافة، والذي يعني مجموعة من الظواهر والميول و الأعراض،

التي تظهر في تصرفات الإنسان مجتمعة أو منفردة، وبشكل مترابط ومتزامن عند بعض الأشخاص وحتى المجتمعات. لذا جهد علماء الاجتماع وعلم النفس في دراساتهم وأبحاثهم، للبحث ومحاولة معرفة الجذور الحقيقية وراء نزعات العنف لدى بني البشر، مركزين في ذلك على متابعة ملفات عينة من المجرمين والقتلة، في محاولات حثيثة لاكتشاف الأسباب الكامنة لهذه الميول السلبية. بعد أن طرح السؤال الإشكالي الكبير، هل هذه الميول نتاج جينات وراثية أم أسبابها لها علاقة بالتنشئة الاجتماعية؟

العنف له متلازمات تتعلق أساسا بتركيبة الإنسان النفسية والجسدية، وتكون في بعض المراحل طباعا لفكر جمعي يمارس بشكل واسع داخل العائلة أو المجتمع،ويظهر جراء متلازمات تطفح إثرها تغيرات في السلوك الفردي والجمعي.

فهناك من يعزو طبيعة العنف لمتلازمة المناخ مثلا،فالمناطق الباردة يقل فيها العنف عكس المناطق الحارة الجافة حيث ترتفع نسب التنمر والجريمة. أيضا يمكن القول بأن نوع العمل وطبيعته، يمكن أن يكون فاعلا إيجابيا في تغيير السلوك لصالح التخفيف من حدة المزاج المتطير والخشن، ويقلل من وقائع العنف بسبب نشوء المصالح الذاتية والانشغالات اليومية. ومن الجائز أن يكون العمل الصعب المرهق بالعكس من ذلك، حيث يترافق الإرهاق جراء العمل، بتصاعد ميول متطيرة لمزاج يصعب عليه التآلف مع بيئة مستقرة. أيضا يعد الفقر المرافق للتخلف كمتلازمة يكون سببا وأداة فاعلة ورافعة لاستشراء العنف وتأجيج الصراعات، ودائما ما شكل الفقر عبئا وتهديدا للتوازن النفسي، وقاد لتصعيد التصرفات غير السوية في المجتمع.

ويأتي القسر والاضطهاد كواحدة من أكثر المتلازمات المسببة للعنف، حيث يعد رافعة نموذجية لتصعيد العنف عند الأفراد، وغالبا ما تكون ردود فعل الاضطهاد، قاسية تتوسل الانتقام، أو العكس حيث ترتضي حالة رضوخ وخنوع تامين. وبذات المنحى تأتي عوامل الخوف وضعف الشخصية، حيث يميل الفرد لتغيير الصورة النمطية للتبخيس الذاتي ومشاعر الدونية المركبة، بردود فعل قاسية عنفية. فالمرء الخائف يدافع عن نفسه بأدوات، يريد بها درء الخطر عن نفسه ومجموعته،ولغرض الإفلات من ذل القهر نجده يمارس العنف، أو يلتجأ لحل أكثر نفعا مثلما يظن، يكون فيه جزءا من مجموعة تدافع عن وجودها الخائف بالعنف المفرط بالضد من التشكيلات الأخرى.

ويتمثل العنف ويتمظهر في اللغة والتصرفات اليومية الفردية والجمعية، ويبدأ من لغة التنمر والتبخيس والتعنيف والترهيب وصولا إلى القتل، وهذا غالبا ما يمارس في المجتمعات المتخلفة، وترتفع نسبه بين أوساط المجموعات المهمشة وبشكل مستدام، والبعض يعده جزءا تقليديا من أعراف وطبائع دينية ومجتمعية متوارثة وراسخة، وليست بالغريبة أو المستهجنة، وبعض من تلك الأعراف والطباع، مثل القبول بضرب الطفل لتربيته أو المرأة لتأديبها أو تبخيس الأخر للطعن به وأهانته فردا أوعائلة أو مجموعة. وكذلك تعليم الطفل وسائل العنف، للدفاع عن نفسه،ليكون قويا أمام أقرانه، والرجل ليبعد عنه شبهة الضعف (مخنث) مثلما يذكر في الأمثال.

وتمثل العقائد ذات الأيدلوجيات والمناهج الاقصائية، النمط الشائع لتغذية سلوك الأفراد ودفعهم نحو ممارسة العنف والقسوة تجاه الخصوم، ويستخدم العنف في بعض الأحيان ضد الأقرب لهم معتقدا. ودائما ما حملت تلك الأيدلوجيات نزعات عدوانية تدميرية. ويمكن ملاحظة ذلك وتسجيل وقائع جرمية بشعة في الكثير من ممارسات التطرف القومي والديني، الذي أوقع تصفيات جسدية بالكثير من شعوب العالم وغيب الملايين من البشر وما زال.

ويتمثل هذا الأمر بشكل جلي بين أوساط الحركات الأصولية الدينية، التي تكفر جميع من يخالفها بالفكر والعقيدة.فالفكر البدائي الماضوي غالبا ما يعتمد لغة الغلبة وإيذاء الأخر وسلبه مواقعه وممتلكاته و إزاحته عن المكان، ووجد الكثير من هؤلاء في الدين شماعة يتكئ عليها ويحارب بسيفها.وبات الدين عندهم رافعة منهجية، واحد أهم المتلازمات لترسيخ وتصعيد عوامل الفرقة والعنف.

كل تلك الصور من العنف والقسوة تعطي للمجتمع موروثا ثقيلا من العادات والتقاليد السلبية والتي باتت تشكل متلازمات سببت وأورثت الخراب وعمقت لغة العنف والتقاتل، وصنعت كل هذا التاريخ البشع من الجرائم والرذائل والسلوك الشائن، وزرعت في وجدان الناس الخوف، ليكون لوحده مقدمة كافية وحتمية لظهور الإرهاب والعنف. وفي النهاية يكون العنف ظاهرة وطفحا يطغي على تصرفات الفرد ليصبح بعد استشرائه فكرا جمعيا موجعا ومفجعا.

المعروف عن العنف كونه أمرا نسبيا يختلف من شخص لأخر، ومن مجتمع لأخر أيضا. وليس مستبعدا أن تلعب الجينات الوراثية عند البعض الدور الفاعل في هذا، حيث غالبا ما يظهر المرء وبسبب تركيبته النفسية أو عاهاته الجسدية،عصبيا متقلب المزاج، عنيفا في ردوده، متطيرا مذعورا ومتشائما يائسا، وفي نفس الوقت هناك العكس من هؤلاء حين يمتلك الفرد طاقة ايجابية تخلق لديه قدرة تجعله يعيش فعاليات جسدية ونفسية بعيدة عن اليأس والتطير والإحباط.

رغم جميع تلك النماذج والحالات العنيفة التي تتلبس الفرد والجماعات، فالأطباء ومعهم العلم، يجيبون بالجزم، على وجود حلول تتمثل بالعلاج الطبي والنفسي ومن خلال عمل تكاتفي، يمكن له تصحيح وتغيير العديد من تلك النماذج العنفية وكبحها والسيطرة عليها، وهنا تلعب التنشئة الاجتماعية والتعليم دورا أساسيا في تغيير السلوك. فتغيير طرق وأنماط التعامل الأسري والمدرسي، الذي إعتاد على تشويه التركيبة النفسية، وزرع ثقافة العنف والقسوة لدى الأطفال، إلى سلوك ايجابي إقناعي حضاري، وهذا النمط من التعليم يلعب دورا مهما في كبح طبائع العنف ومتلازماته، وممكن له أن يكون أساسيا ورياديا في محاولات التغير والسيطرة على السلوك، ليس فقط عند الأفراد وإنما بين المجاميع أيضا. ويشكل العمل الفكري أو الجسدي النموذج التهذيبي للفرد والجماعات، حين يرفدهم بطاقة ايجابية للحصول على المعنى الحقيقي للوجود الإنساني. وتلعب التجمعات الحضرية الثقافية الرياضية الاجتماعية، ذات النفع العام، دورا فاعلا وحيويا في تغيير طباع وسلوك الأفراد، عبر متبنياتها ومُثلها المتسمة بالايجابية والتأكيد الدائم على قدرة الفرد وقوته الذاتية، وتدريبه ذاتيا وجمعيا على الالتزام بأفعال الخير وبالذات الجمعية منها، والتسامي على الخصومات والقبول بلغة الحوار كحل ناجح وعقلاني ووحيد لفك حالات انغلاق آفاق المستقبل أمام الفرد.

فطباع العنف تختفي مع اختفاء معالم الإجبار والقسوة والقهر واستخدام العنف الجسدي واللفظي مع الأفراد وخاصة الأطفال.أي تعتمد تنشئة الأفراد بعيدا عن مفاهيم العدوانية والتناحر والتنمر، ويمكن اعتماد مثل هذه التربية لتغيير سلوك المجتمع بشكل عام، فالإنسان كائن اجتماعي يؤثر ويتأثر بالأفراد والمجاميع المحيطة به، وكما يقال في علم الاجتماع إن الإنسان ابن بيئته. وكلما اتسمت هذه البيئة بالايجابية والعقلانية والبعد عن أي نوع من أنواع العنف والانفعالات القسرية المعيبة، فان مستويات الوعي الفردي والجمعي، تأخذ بالتغيير والتبدل نحو طابع تقديم النفع العام للمجتمع وتنحسر معه مستقبلا طباع العنف ومسبباته.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 24-10-2022     عدد القراء :  1575       عدد التعليقات : 0