الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
حظر التعبير وليس حرية التعبير..!

عندما يغرق المجتمع في لجّة القذف والإساءة والتهديد من طرف يستقوي على طرف. طرف يرى نفسه كبيراً وقوياً على الضد من طرف آخر ليس لديه ما يدعمه ويحميه من تجبّر الطرف الأول.

عندما يحصل هذا فإننّا ندخل مرحلة قرع النواقيس لدخولنا مرحلة الأزمة الخانقة. في مواجهة سيل التصريحات والتعليقات والأحاديث اللامسؤولة التي تظهر في مختلف وسائل الإعلام أو على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تلبس لباس المحاضرة أو الدرس أو البحث مما لا يتصف بالحد الأدنى من آداب التعبير الاجتماعي والأدبي والثقافي بمختلف أشكاله من قبيل شرعنة القتل والسبي والإغتصاب والإعتداء على الآخر “المختلف” دينياً أو مذهبياً أو جندرياً أو ثقافياً أو عرقياً واضح أننا بحاجة إلى المطالبة بتشريع يحظر التعبير لا أنْ يسمح به.

تأتي أهمية هذا بسبب إستشراء ظاهرة التعبير غير المسؤول وعلى أكثر من صعيد ومن ضمنهم مَنْ يدعي وصلاً بالمؤسسة الدينية والإعلامية بل وحتى التعليمية والأكاديمية.

فقد بلغت الإستهانة والتغاضي والتمدد لدى البعض حداً ينذر بمخاطر كثيرة لعل من أشرسها المساهمة بتوفير البيئات الآمنة لتنامي أشكال جديدة من العنف بمختلف مستوياته إبتداءً من العنف اللفظي فالبدني فالغصب والإغتصاب والقتل والإخفاء.

فهذا يضع الناس في مراتب منهم “كفار مشركين” ومنهم “كفار كتاب”، وذاك يستشهد بالجن والسحرة والشياطين وآخر يتلاعب بحقائق التاريخ على مستوى الكتب المنهجية المقررة لطلبة المدارس ولا من مراجع أو رقيب أو جهة تأخذ ما يقال ويتم تداوله على محمل الجد لتجيب وتوضح وتبرر. بل ويجاهر البعض الآخر مزداناً بعمامته بالحق في سبي النساء غير المسلمات دون إزعاج الزوجة وخذْ على هذا من الكلام والأحاديث غير المسؤولة.

في الماضي كان النظام السياسي الحاكم يتدخل بكل صغيرة وكبيرة حتى صارت قاعة المحاضرة والدرس زنزانة يحكمها كتّاب التقارير من الطلبة وزملاء المهنة.

اليوم سرنا إلى النقيض المختلف إنّما بما لا يقل سوءاً عن الأول. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي التي تنامت سطوتها لتصبح سيفاً ذا حدين بتسليط الضوء على هذه الآفات الاجتماعية التي تنهش المجتمع لتقرّبه من أنْ يكون غابة وليس واحة ألفة ومحبة وتعاون وسلام بين جميع من الناس ممن قد يختلفون ولا يتفقون الا إنّهم يحاذرون من بلوغ مرحلة التقاتل والنزاعات الدائمة التي تعرض وحدة المجتمع إلى تحديات جدية. ولمواجهة مثل هذه الأجواء المسيئة بقوة إلى الآداب العامة والنظام الأخلاقي السائد في المجتمع يبدو أنّنا بحاجة إلى إستحضار دليل القواعد الأخلاقية غير المكتوبة التي إستهدى بها المجتمع عبر حقب زمنية متعاقبة لتحويلها إلى دليل مكتوب لتنبيه المتكلمين والمتفيقهين والمتحذلقين إلى أنّ للحرية حدوداً لا يسمح بتجاوزها.

فالحرية الفردية تتوقف عندما تصل خط التماس مع حرية الآخر. أما الحرية الجماعية التي يتعرض فيها البعض إلى جماعات بأكملها فتتطلب رداً أكثر قوة وأوسع سلطة لما تنطوي عليه من مخاطر مهددة للسلم المجتمعي.

هذه واحدة من أهم القواعد التي يقوم عليها المجتمع الديموقراطي الحديث. لا وجود لحرية مفتوحة هكذا بلا ضوابط أو مقيدات لأنّها بهذه الحالة تعني التفكك والتشرذم والإنفلات بل وتقود حتماً إلى الجريمة والإنهيار.

المنظومة الأخلاقية اجتماعية بطبيعتها وتأخذ بالإعتبار القيم والمعايير السائدة المقبولة بالإجماع.

خذْ على سبيل المثال، أنّ الحياء وقيم التعايش والإحترام المتبادل إنّما هي جزء مهم وعزيز من المنظومة الأخلاقية السائدة المقبولة في مجتمعنا العراقي بإستثناء فترات من الإضطراب والتفكك والإرتباك التي ضربته هنا وهناك. والمنظومة الأخلاقية ليست موضوعية بالضرورة وإنّما قد تنطوي على جانبٍ ذاتي مهم تأخذ فيه بالإعتبار مشاعر الناس وعواطفهم وما يزعجهم ويرضيهم أدبياً وعرفياً.

والمنظومة الأخلاقية جزء من نظام أخلاقي عام. وهنا يكمن التحدي الذي يجب مواجهته. فهل نحن مع الكراهية والبغض والعدوان أم نحن مع المحبة والألفة والإحترام.

وهل نحن مع الحقد والتعالي على الآخر أم نحن مع التعاون والإستقرار والبحث عن القواسم المشتركة. المنظومة الأخلاقية ليست عامة ولا كونية ولكنّها تخصصية بالطبيعة تهتم بالفئات والشرائح الاجتماعية المعنية في بنية اجتماعية محددة. على هذا الصعيد، لسنا بحاجة إلى النظر إلى مجتمعات بشرية أخرى بل يكفي أنْ نضع أعيننا في عيون بعضنا البعض لنرى إلى أي مستوى ينبغي علينا أنْ نفهم ونلتزم ولا نتجاوز على حقوق بعضنا البعض لنشتري مقداراً من راحة البال ونوفر وسيطاً تنمو فيه قيم التفاعل الإيجابي بعيداً عن الشك والتطيّر والترصد والإستشهاد بنظرية “المؤامرة».

تصاعدت الأجواء السلبية إلى حدٍ لم يعد فيه ممكناً السكوت والتغاضي عن كثير من الإنتهاكات الأدبية والمعيارية والعرفية في الوقت الذي يسابق فيه العالم الزمن للحاق بركب التقدم والإزدهار وقطف ثماره.

الديموقراطية ليست فقط حكم الأكثرية مع إحتفاظ الأقلية برأيها وقناعاتها. الديموقراطية أنْ يتساوى الجميع أمام القانون ويتمتعوا بحرية التعبير والصحافة والتجمع وهي أيضاً الحماية من مختلف التجاوزات على حرية المعتقد ونمط الحياة وطريقة التفكير وحق الإختيار والحماية ضد الإعتقالات العشوائية.

وهي أيضاً نظام يسعى لتمكين الجماعات الأصغر أو الأقليات من إسماع صوتها والدخول في منافسات مشروعة وبناء القدرة على الدخول في تسويات تساعدها على الصمود وتأكيد الحضور من حيث أنّ وجودها المجرد يمثل نوعاً من صمام الأمان لحماية العملية الديموقراطية برمتها.

تتطلب كل هذه القواعد الحماية من التصريحات والتعبيرات غير المسؤولة التي تستفز مشاعر الناس وتهز قناعاتهم وتمس مقاييسهم الأخلاقية. تتمثل المرجعية الفكرية والفلسفية للديموقراطية في أنّها تساوي بين كل الجماعات المتعايشة في المجتمع وتعطيهم استحقاقاتهم وتضمن حقوقهم الفردية والجماعية ضمن البنية الاجتماعية الواسعة. للديموقراطية أشكال منها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

وبالنسبة لهذه الأخيرة فإنّها تعني الإنتصار للضمير الجمعي والذي يتمثل بما تتفق عليه الغالبية العظمى من الجماعات والأفراد لتحقيق الصالح العام. يتمثل الغنى الاجتماعي في ظل النظام الديموقراطي بالقدرة على كسب القبول والشعبية والاحترام أما الفقر الاجتماعي فيتمثل بالعزل والنفرة والإستبعاد فردياً أو جماعياً نتيجة استهلاك الجهد والطاقة في مقولات وتصريحات وتفسيرات شاذة وغير مستساغة تباعد بين الناس والجماعات ولا تقارب. ليس أسهل من تأجيج المشاعر وتوجيه التهم هكذا إعتباطاً وبلا ضابط ذاتي أو جماعي.

على الرغم من إهتمام المرجعية الدينية التقليدية في النجف الأشرف بالتحذير ضد مثل هذه السلوكيات كما جاء في خطبة الجمعة الفائتة والتي دعا فيها ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي إلى إحترام الآخر بغض النظر عن نوعه وشكله وأصله وعرقه.

ولكنْ يبدو أنّ النصيحة والتوجيه وإنْ تواترا في خطب المرجعية الدينية لم يعد أمراً كافياً. فالناس يأتمرون بمرجعيات أخرى يتأثرون بها ويستمعون لها بل ويهابونها كالقانون والحكومة شريطة أنْ يحركا ساكناً.

وتحريك الساكن لا يعني فقط الظهور والحضور في قلب الحدث – وإنْ لم يحدث هذا بما فيه الكفاية - وإنّما من خلال العمل على تمكين الجماعات الشعبية المعنية من إسماع صوتها وتجسيد إرادتها في صلب عملية صنع القرار. ولن يتحقق هذا بدون تطوير آليات الشراكة والإشراك ليس على مستوى المراتب العليا وإنّما على مستوى القواعد الجماهيرية التي تملك وحدها الحس بما يجري وتعاني منه.

المجتمع العراقي مجتمع واقعي دنيوي شأنه شأن كل المجتمعات الإنسانية الأخرى.

وهو لذلك يفهم مبررات الحياة الاجتماعية ويحترم قواعدها إذا ما تمسكت بقوانين غير قابلة للإنتهاك من خلال توظيف الإمكانات اللازمة لحمايتها وتعزيزها والحرص على تطبيقها بعدالة وإنصاف وبما يضمن مصالح الجميع بلا إستثناء

  كتب بتأريخ :  الإثنين 12-12-2022     عدد القراء :  738       عدد التعليقات : 0