الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مستقبل التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي

تواجه المنطقة العربية العديد من التحديات في تحقيق تعليم جيد، مثل انخفاض نتائج التعلم، وارتفاع معدلات التسرب، وانخفاض الالتحاق بمجالات العلوم والتكنولوجيا، وعدم التوافق بين المهارات واحتياجات سوق العمل، والاستثمار غير الكافي في البحث والابتكار.

ووفقا لـ "مؤشرات أداء التعليم في العالم العربي" الصادر عن البنك الدولي، والى ما ذكره كل من هاشم العلوي وروبرت سبرنغبورغ في تقرير نشره مركز ويلسن هذا العام، فإن العوامل التي قد تفسر سبب عدم مراعاة البرامج التعليمية في العالم العربي للواقع الاجتماعي والاقتصادي وبياناته واحتياجاته هي:

1- إرث السياسات التعليمية "من أعلى إلى أسفل" و"المركزية" التي لا تسمح بالمرونة والتنوع والاستجابة للسياقات والمتطلبات المحلية.

2- عدم وجود "مشاركة" و"مساءلة" لدى مختلف أصحاب المصلحة، مثل المعلمين وأولياء الأمور والطلاب والمجتمع المدني والقطاع الخاص، في تصميم وتنفيذ وتقييم البرامج التعليمية.

3- تأثير جداول الأعمال "السياسية" و"الإيديولوجية" التي تشكل محتوى التعليم وأهدافه، وأحيانا على حساب الجودة والملاءمة والشمول.

4- تأثير "النزاع" و"عدم الاستقرار" و"النزوح" على إتاحة التعليم وجودته لملايين الأطفال والشباب في العالم العربي. ويقترح تقرير البنك الدولي بعض الطرق الممكنة لتحقيق مواصفات أكاديمية خاصة للجودة منها:

5- اعتماد نهج "شامل" و"متكامل" في التعليم يأخذ في الاعتبار الأبعاد المتعددة للجودة، مثل الوصول والإنصاف والكفاءة والملاءمة ونتائج التعلم.

6- الترويج لمنهج "يركز على المتعلم" و"قائم على الكفاءة" يعزز التفكير النقدي والإبداع وحل المشكلات والمشاركة المدنية بين الطلاب.

7- تعزيز "التطوير المهني" و"التحفيز" للمعلمين والمدرسين من خلال التدريب المستمر والتوجيه والتقييم والاعتراف.

8 ـ تعزيز "الشراكات والتنسيق" بين مختلف الجهات الفاعلة والقطاعات المشاركة في التعليم، مثل الوزارات والمدارس والجامعات وأرباب العمل والمجتمع المدني والمنظمات الدولية.

9- زيادة الاستثمار في "جمع البيانات" و"التحليل" و"الاستخدام" لتوجيه السياسات والممارسات القائمة على الأدلة التي تستجيب للواقع الاجتماعي والاقتصادي وبياناته واحتياجاته.

اما فيما يتعلق بمستقبل التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي، والتحديات التي تواجهه. ما تطرحه من مسائل معقدة لا ارى حلولا سهلة أو سريعة لها، لكن يمكنني أن اعرض بعض الآراء حولها. أولاً، يبدو أن هناك بعض الإنجازات والمبادرات التي تهدف إلى تطوير وتحسين التعليم العالي والبحث العلمي في بعض الدول العربية، التي حققت قفزات كبيرة في هذا المجال والتي شملت تحسين جودة البحث العلمي وارتفاع معدلات نشر البحث العلمي، ودخول عدد من الجامعات ضمن الأفضل في التصنيفات العالمية. ثانياً، يبدو أن هناك تحديات كبيرة تواجه التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي بشكل عام وتتعلق بهذه المسائل التي تطرحها، مثل انخفاض الإنتاج العلمي مقارنة بالدول المتقدمة، وهجرة العقول إلى خارج المنطقة وعدم رجوع المبتعثين الى بلدانهم الاصلية بسبب غياب البيئات الابتكارية المعرفية، وتقلص تمويل الجامعات والأموال المخصصة للتعليم، وانتشار الشهادات المزورة والنشر الزائف والأمية الأكاديمية التي بدأت بفتك المجتمعات الاكاديمية العربية. اننا نعيش اليوم تحت تأثير خطير من هذا الشكل الجديد من الأمية ولكننا لا نمتلك فهم وإدراك جيدان للمشاكل المرتبطة بهذا النوع من الأمية بصورة واضحة. لا ترجع الأمية الاكاديمية إلى نقص في الذكاء، لأن العديد من الأشخاص المصابين بها في ظروف تسود فيها اساليب الخداع وفقدان الشفافية والتظاهر والانحراف القيمي والاخلاقي في أداء العمل، يتمكن هؤلاء من إيجاد طريقة لإخفاء أميتهم ولذا يمكنهم من تحقيق نجاح زائف يصل الى مستويات عالية.

اما التحايل الإداري في المؤسسات التعليمية فينتشر في بعض الدول دون غيرها بسبب غياب القواعد الصارمة للمؤهلات والخبرة وشيوع الفساد الاداري والمالي والتعيينات على أساس الانتماء السياسي والطائفة والولاء للسلطة. وتظهر معالم الأمية الأكاديمية بصورة اكثر كلما ازداد التعليم الظاهري للفرد، فكثير من الباحثين يتظاهرون ويدعون بالمعرفة التي من المفروض ان تمنحها شهاداتهم ولكنهم لا يعرفون غير الاقتباس والانتحال ونشر الأبحاث الملفقة، علما ان العديد من المنشورات التي يُزعم أنها انتجت من قبلهم بالحقيقة تم إنتاجها من قبل مكاتب تجارية لتحقيق مكاسب شخصية بحتة، فكيف يمكن القول بأنه باحث وأنه اكتسب مهارات البحث العلمي وطرقه. وماذا نقول عن التدريسي الذي حصل على شهادة مزورة ومن دكاكين الجامعات المنتشرة في المنطقة. أصبحت الشهادات الجامعية أداة قوية لتعزيز فرص الحصول على عمل، وهذا ما دفع بعض ضعاف النفوس في الدول العربية إلى الحصول على هذه الشهادات بأية وسيلة كانت، حيث برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة خطيرة وغريبة في الأوساط الجامعية. شهادات لمن يرغب الحصول عليها بعد تسديد أجور مناسبة تحددها ما يعرف بإدارة الجامعة. ولتجاوز هذه المشكلات، يبدو أن هناك حاجة إلى استراتيجيات مواجهة شاملة ومتكاملة لهذه التحديات، تشمل تحقيق اصلاحات واسعة لمكافحة الفساد في مجالات مثل ادارة المؤسسات الاكاديمية والمشتريات العامة والاستثمار والإنفاق ودعم مبادرات تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة والنزاهة في قطاع التعليم العالي والجامعات كمشروع مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في البلدان العربية، وهو مشروع إقليمي ينفذه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع شركاء إقليميين ووطنيين، يهدف إلى تطوير قدرات المؤسسات العامة والخاصة والمجتمع المدني على منع وقمع أفعال الفساد. كما يمكن ان يساعد تحقيق استقلالية الجامعة على تعزيز الحريات الاكاديمية والنزاهة.

ومن ضمن الاجراءات التي تساعد في نهضة الجامعات والحد من الفساد الاداري والاكاديمي هي زيادة التعاون بين المراكز والجامعات العربية والجامعات الغربية في مجالات البحث والابتكار، وتشجيع المشاركة في المؤتمرات والورش والدورات التدريبية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتطوير منظومة التقويم لضمان جودة التعليم والبحث ومنع الغش والتزوير، وتحديث المناهج والبرامج الدراسية لتتوافق مع متطلبات العصر وسوق العمل، وتوفير الدعم المادي والمعنوي للباحثين والمختصين والطلاب المتميزين.3443 محمد الربيعي

ان هناك اجماع بين صانعي السياسات وأساتذة الجامعات والطلاب والخبراء الدوليين على أن الانظمة التعليمية في الدول العربية بحاجة إلى إصلاح شامل لمواجهة التحديات التي تواجه الانظمة العربية نتيجة التغيير في الهيكل العمري والاتجاهات الديمغرافية الأخرى، ولا سيما فيما يتعلق بالبطالة وخلق فرص العمل لخريجي الجامعات، وهذا يتطلب مواءمة البرامج الاكاديمية مع احتياجات سوق العمل، والادلة كثيرة على معاناة الدول العربية من انتشار واسع للبطالة بسبب عوامل متعددة منها نقص التمويل والبنية التحتية والموارد البشرية للتعليم، وضعف جودة المناهج، وانعدام التحديث والابتكار والتطوير في المجالات العلمية والثقافية. وما فاقم المشكلة هو انتشار ظاهرة الامية الاكاديمية في البيئة الأكاديمية العربية والتي تشمل العديد من الجامعات والهيئات العلمية، وتلقي بظلالها على أساتذة الجامعات وحملة الشهادات العالية الذين يفتقرون إلى مستوى ثقافي وفكري مقبول. تنبع هذه المشكلة من قطيعة هؤلاء الأساتذة واصحاب الشهادات العالية عن ثقافة الفكر والحياة. وقد أظهرت بعض الملاحظات أن نسبة كبيرة من الأساتذة الجامعيين يهملون البحث والقراءة والابتكار بمجرد حصولهم على شهاداتهم او ترقياتهم العلمية. وغالبا ما تكون أبحاثهم التي قدموها للترقية مستلة وبلا مغزى أو قيمة علمية جديرة بالاهتمام. يسقط كثير من الأكاديميين العرب في فخ الأمية الأكاديمية، وهذا ما يبعث على الفزع في زماننا. فالكثير منهم لا يتمتعون بثقافة أو معرفة، بل يغوصون في جهل وخرافات وتعصب. وعندما تناقشهم في موضوع ما، تكتشف فقرهم الثقافي وسطحية تفكيرهم. فهم لا يستطيعون التفكير بموضوعية أو نقدية في قضايا الحياة، بل يتبعون أفكارا هزيلة وتصورات ضبابية. إنهم يعانون من انغلاق ذهني وانبهار بالاوهام. إنها حالة من الانحطاط الذهني والانزلاق الثقافي التي أصابت عقول هذه الفئة من الأكاديميين العرب.

فمثلا، قد تجد بعضهم يؤمنون بأساطير وخزعبلات ويرفضون سماع أي رأي مخالف أو نقدي لهذه الأفكار، وقد يستخدمون هذه الأفكار لتبرير مواقف متطرفة أو متخلفة. إن هذه الحالة تستدعي تحديا كبيرا لإصلاح التعليم والثقافة في العالم العربي، وإحياء روح التفكير الحر والإبداعي والنقدي في عقول الأجيال الجديدة. تبرز ظاهرة الأمية الأكاديمية في عدة مستويات منها: المستوى المؤسساتي، حيث تظهر في سوء إدارة المؤسسات التعليمية، وغياب رؤى استراتيجية للتطوير، وانخفاض مستوى جودة التعليم، وانحصار المنافسة في أبعاد ظاهرية. كذلك المستوى المهني، حيث تظهر في انخفاض كفاءة أساتذة الجامعات، وغياب روح التحديث في مجالات تخصصهم. أخيراً المستوى المعرفي، حيث تظهر في انغلاق طلاب الجامعات على مصادر محدودة للمعرفة، وعدم تنويع مراجعهم ومناهجهم، وعدم تطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي. تؤثر الأمية الأكاديمية سلبا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للعالم العربي، حيث تقلل من فرص التوظيف والإنتاجية والقدرة التنافسية للأفراد والشركات، وتزيد من مستويات الفقر والبطالة والهجرة والجهل والتطرف.

ان وجود الالاف من حاملي الشهادات العاطلين لا يعود فقط الى عدم وجود فرص عمل وانما ايضا الى رداءة التعليم العالي بصورة عامة والمتمثل بالاعتماد على التلقين واجترار المعلومات، وتخريج "حفاظين" بدلا من خريجين مبدعين ومفكرين نقديين ومبتكرين متحلّين بقابليات ومهارات العمل ومتمكنين من القيادة وريادة الأعمال، قصد التمكن من مواجهة تحديات بيئة العمل. يؤدي ضعف المهارات لدى الطالب وخصوصا اللغوية منها الى الانفصال عن العالم والانعزال داخل بوتقة المعرفة المحلية. كما ان ضعف تكوين التدريسي وانخفاض الكفاءة التعليمية والجودة لديه، تحوله إلى مجرد موظف بدلا من ان يكون عالما ومفكرا. ولاجراء اصلاحات جذرية على نظام التعليم لغرض إنتاج خريجين أكفاء والقضاء على البطالة والامية الاكاديمية تحتاج الدول العربية إلى قيادات تعليمية ديناميكية وشجاعة تتفهم حقا قضايا التعليم في بلدانها وتتخذ إجراءات عاجلة وشاملة للحد من هذه الظواهر، من خلال زيادة الاستثمار في قطاع التعليم، وتحسين جودة المخرجات التعليمية، وتشجيع التعلم مدى الحياة، وتوسيع نطاق التعاون والشراكة مع المؤسسات الإقليمية والدولية المختصة.

  كتب بتأريخ :  الخميس 31-08-2023     عدد القراء :  1404       عدد التعليقات : 0