الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
القاهرة واستذكار بغداد

تقيم معظم البلدان متاحف لفنونها وحضارتها، ومتاحف أخرى تحتفظ فيها بكنوز الفن العالمي، لكي تذكر الأجيال القادمة بالذين نثروا ألوانهم وأقاموا النصب المرمرية، لأن الذاكرة البشرية بحاجة إلى أن تتذكر أن التاريخ ليس حروباً وصراعات وفتوحات ومؤامرات، وإنما ألوان وموسيقى وشعر وغناء وتماثيل تروي حكايات الناس.

تتباهى القاهرة بمتحف "محمود خليل" المولود عام 1877 وقد أخبرنا المسؤول عن المتحف أن محمود خليل الذي تولى عدة مناصب في الدولة المصرية منها رئاسة المجلس النيابي ، كان مولعا بالفنون، أثناء دراسته للحقوق في السوربون تعرف على فتاة فرنسية تدرس الموسيقى من عائلة بسيطة فتزوجها، وحين عاد بها إلى مصر بنى لها قصراً على النيل عام 1918. في منطقة الدقي بناه على الطراز المعماري الفرنسي وهو مكون من ثلاثة طوابق، وتحيط به حديقة كبيرة. وكانت أبرز هوايات محمود خليل الموسيقى وجمع اللوحات الفنية، حيث تحولت جدران فيلته إلى متحف يضم رسومات فان كوخ وغوغان ومونيه ورينوار وإدغار ديغاس وتوجد أيضاً خمسة أعمال للنحات الفرنسي الشهير أوغست رودان، بينها تمثال للروائي الفرنسي المعروف بلزاك.

‎ محمود خليل، كان من اوائل المشاركين فى تأسيس جمعية محبي الفنون الجميلة عام 1924، و تولى رئاستها عام 1925، وقد أوصى بتحويل قصره إلى متحف وقد عملت الزوجة على تنفيذ الوصية بعد أن نقلت جثمان زوجها من باريس إلى القاهرة واشرفت على تنفيذ وصيته.

‎ونجد في مجلة الجيل فى عام 1954 خبراً يقول: "تنزل مدام "إيميلين" الزوجة الفرنسية للمرحوم الفنان محمد محمود خليل ضيفة على نادية هانم بركات ابنة شقيقة محمود خليل، وقد حضرت الزوجة إلى مصر مع جثمان زوجها، لتمكث فى القاهرة أسبوعاً حتى تشارك فى توزيع التركة الضخمة التي تركها زوجها المليونير، وتشرف على تنفيذ وصيته بإنشاء متحف باسمها واسم زوجها كما نصت الوصية" .

‎وأنا أتجول في متحف محمود خليل تذكرت الدور المستنير الذي يلعبه مواطن عراقي اسمه صلاح حيثاني، عاد من هولندا ليفتتح في كربلاء متحفاً للفنون المعاصرة. من قيمات المعرض لوحات لسلفادور دالي وبيكاسو وشاغال وماتيس، وهناك أعمال من البوب آرت لآندي وارهول وكوستابي وليخنشتاين، ولوحات زيتية لفنانين مستشرقين ومنحوتات برونزية ومصورات نادرة.

‎ومثل محمود خليل كان الحيثاني صاحب ذائقة فنية يؤمن أن الثقافة والفنون السبيل الوحيد أمام الناس في دولة شحيحة الطموحات، ومثل محمود خليل أتقن الحيثاني فن جمع النوادر وكرّس فكره ورؤيته وجهوده من أجل أن يكون هناك متحف عالمي في مدينته كربلاء.

‎نتذكر متحف الرواد وكيف نهبت محتوياته النادرة عام 2003 ومنها غرفة العبقري جواد سليم ولوحات فائق حسن والدروبي وكاظم حيدر وعطا صبري. أطيل النظر في كنوز متحف محمود خليل وأشعر بحسرة لضياع مقتنيات معماري وفنان كبير بحجم محمد مكية الذي تصدر ورفاقه بجدارة حقبة جميلة غنية عاشتها بغداد في الخمسينيات، وعاشها العراق حتى بداية الستينيات. أعذب علاماتها كان صوت ناظم الغزالي، وأبرز ملامحها جدارية جواد سليم، ومعمار مكية والجادرجي، وأرقّ صفحاتها قصائد نازك والسياب. وعندما قرأت في الأخبار وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عن المزاد الذي بيعت فيه مقتنيات اثنين من رواد العمارة العراقية الحديثة وهما محمد مكية وسعيد علي مظلوم تذكرت وصية محمد مكية حين كتب: "أوصيكم ببغداد.. استمعوا إليها.. أصغوا إلى صوتها كثيراً.. ستكتشفونه في حركة الشجر والنخيل.. في دفق ماء النهر.. في الضحكات الصافية.. تأملوا لونها.. تجدونه في الطابوق.. في الخشب.. في زرقة الماء.. في سمرة الأهل" .

‎آخر عقود مدينة أبو ظبي كان افتتاح اللوفر. ليس النفط وحده، بل الثقافة تبني الأوطان، سيقول البعض: لماذا تمتدح جميع الأمم وأنت تعيش فوق بقعة هي مزيج من أجمل الحضارات؟. نحتاج أيها السادة أن يتركوا لنا شيئاً من البقايا للعراق.

  كتب بتأريخ :  الأحد 04-02-2024     عدد القراء :  651       عدد التعليقات : 0