الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
جبران وبطيخته.. وسعر البنزين
بقلم : صائب خليل
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

  أروع ما كتب جبران في تحليل النفس البشرية، هاتين الجملتين:

   "سرق احدهم بطيخة من مزرعة جاره. ولما فتحها وجدها عجراء، فاستيقظ ضميره، وندم لأنه سرق البطيخة!"

   يقول جبران بسخريته الخفية، ان ما نسميه "استيقاظ ضمير" أو دفاع عن المبادئ، هو في حقيقته كثيرا ما يكون محسوب الخسائر والأرباح، وأن الأرباح قادرة ان تغطي الضمير، وأننا لا نركب حصان المبادئ غالبا، إلا بعد التأكد من ان ذلك لا يكلفنا شيئا، وان التخلي عنها لم يعد علينا بالجائزة أو الرشوة المرجوة!

   ما حدث لنا مع "سعر البنزين" هو الأمر ذاته. فأكثر من سنة من ارتكاب الجرائم بحق السيادة والكرامة الوطنية العراقية والكتابة عنها، لم تؤثر شعرة في معظم الشعب العراقي، مادام كان يشعر بأنه يحصل على مجسرات وانشاءات (وإن كانت بهدر هائل لاستثمارات اجنبية غالبا) و"تعيينات" (كلها تقريبا عبارة عن تدمير لنظام الدولة بالبطالة المقنعة الشديدة)، ووعود بأراض وأوهام محاربة فساد ممتعة..

   حتى جاءت صدمة رفع سعر البنزين! هنا فتح الشعب بطيخة الرشوة، فوجدها عجراء، فاستيقظ احساسه بالكرامة والسيادة، وصار الاحتجاج على تبذيرهما يلقى آذانا صاغية وغضبا من الناس! بعد هذه اللحظة تضاعف قبول المنشورات التي تنتقده، وصار طباليه لا يلقون إلا السخرية والشتائم!

   طبعا انا سعيد لهذا التغير، لكني حزين في نفس الوقت لأنه لم يأت من خلال وعي الشعب لأهمية سيادته التي تباع وكرامته المبذرة لكل من هب ودب. سعيد للتغيير لكني قلق من المستقبل ان يجدوا رشوة لنفوسنا تعيد الوضع على ما كان عليه. إنه يعني أيضا أن ما نكتبه قد لا يكون له أي اثر. فارتفاع البنزين كان سيثير الغضب ويعيد النظر بعميل السفارة في كل الأحوال، وبدون هذا الارتفاع لم نحقق شيئا، فالفضل كله يعود للبنزين ولا دور للكتابة والتوعية فيه. ومن الممكن ان تقرر السفارة اعادة سعر البنزين على حاله وتعود الامور لصالحها كما كانت.

   إن رفع الدعم عن البنزين وغيره أمر متجذر في سياسات الاحتلال الامريكي لأي بلد يسيطر عليه، لكن يبدو لي ان السفارة استعجلت في هذه الخطوة فخربت ما كانت تبنيه من هالة حول أشد عملائها خطورة في العراق والمنطقة وما كان طبالوها يحققونه، وأموال البلد في بنكها الفدرالي وفرق جواسيسها حرة في تجنيد ضباط الجيش والأمن واقتصاد الخصخصة ولصوص القطاع الخاص يخترق البلاد أكثر وأكثر، والناس تصفق لخراب بلدها! فلماذا استعجلوا وخربوا مشهدا لخراب متكامل لا يحلمون به؟

   يجب ان ننتبه ان خاصية البطيخة العجراء لا تقتصر على الشعب العراقي (وإلا لما خطر ببال جبران ان يكتبها) ولا حتى على الشعوب المتأخرة التي تستطيع ان ترى سعر البنزين وقطعة الارض المجانية وتعجز عن رؤية تأثير عبارات تجريدية مثل السيادة والكرامة على حياتها. فعندما نكتب أن السوداني يدعسهما تحت قدميه نبدو وكأننا نتحدث عن شيء وهمي.. "شعارات".. "عنتريات".. ويصرخ بنا الجميع : "خلوه يشتغل!". إنهم لا يصرخون ان كلامنا خطأ، إنما يطالبوننا أن نعطيه الفرصة ليقدم لهم المزيد من الرشوات التي تساعدهم على بقاء الضمير نائما، ونسيان "سرقة البطيخة".

   البطيخة العجراء لا تقتصر على الشعوب المتأخرة، لكن كلما كان الشعب اكثر وعيا، كلما كان اكثر ادراكا لخطورة تلك العبارات التجريدية عن السيادة والكرامة واثرها على مستقبله، ودورها في الحفاظ على المجتمع وصراعاته الداخلية والخارجية، وبالتالي اثرها على كل فرد فيه، ليس فقط من الناحية النفسية، بل المادية أيضا.

   إن العدو الذي يحتل بلادنا ويضع تدميرها ونهبها هدفا له، يدرك هذا بأفضل كثيرا مما ندركه ومما تدركه القيادات الوطنية، لذلك فهو يصرف المليارات للسيطرة على اعلامنا وتكوين جيوش الطبالين الذين يكلفون بإقناع الناس بالتركيز على "الفوائد" المباشرة وترك "الشعارات" و "العنتريات" مثل السيادة والكرامة، أو تركها "للحكومة" (بما يساوي تركها للسفارة في حالة العراق). وفي شعب لديه الكثير من الحاجات المباشرة الملحة، وهو حال عوز حرصت السفارة على إدامته، فأن نجاح هؤلاء أمر سهل نسبيا.

   وهذا خطير، فقد كتب حكيم: "الشعب الذي يبيع سيادته مقابل الرفاه سيخسر سيادته، ولن يحصل على الرفاه"!

  كتب بتأريخ :  الجمعة 05-04-2024     عدد القراء :  396       عدد التعليقات : 0