الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ضد التعذيب!
بقلم : إبراهيم الحريري
العودة الى صفحة المقالات

لم يعد السكوت ممكناً...


في حزيران 1952 لم اكن تجاوزت الرابعة عشرة إلا قليلاً عندما تعرضت لأول تجربة تعذيب؛ القي القبض عليّ في الكاظمية. اقتدت إلى مركز الشرطة، جرى تفتيشي فعثر لدي على كراس: "السفير الأمريكي يهذي" للحزب الشيوعي. اقتدت إلى غرفة مأمور الشعبة الخاصة عبدالوهاب، فوق رأسه كانت معلقة واحدة من أدبيات الشرطة: ان ينسى الشرطي الاسم فانه لا ينسى الوجه مطلقاً، لن يقدر لي ان اتعرف على وجهه الآن بعد هذه السنين، لو التقيته، لكني مازلت اذكر أسمه.
بدا له انني صيد سهل، لكنه بعد أن كسر خيزرانه على رأسي. تهالك على مقعد مجاور. انخرط في نوبة هستيرية وبدأ ينشج.
قدم معاون المركز: محمد المعروف بـ"ابو كحله" كان سيداً سامرائياً، كحيل العينين فعلا، اقتادني، يحف به معاونوه، إلى إسطبل ملحق بالمركز. علقت ويدي مربوطتين إلى الخلف في شباك الإسطبل. عُرّيت. هددْت بالاغتصاب. انهال عليّ الضرب من كل جانب بينما كان المعاون مشغول بنتف شعر العانة، متلذذاً (كتبت عن ذلك في "يارا" - رواية قصيرة-) استمرت حفلة التعذيب هذه ما لا أدريه من الوقت. حتى أصبت بنوبة صراخ هستيرية ورحت في إغماءة طويلة، لم أفق منها إلا في الموقف لأرى وجه عامل النسيج الطيب السمح، جاسم يحيى (وكان جرى توقيفه الليلة ذاتها)يعتني بي ويحاول ان يخفف عني.
جربت، وكنت شاهداً، منذ ذلك الوقت، صنوفاً مختلفة من التعذيب كان أقساها وأكثرها وحشية في قصر النهاية، "المسلخ" كما سميته في العديد من الكتابات: كنت شاهداً على الضرب المبرح المتواصل، وسمل الأعين، وبتر الأعضاء وما زالت صرخات النساء المغتصبات المعذبات تؤرق ليلي.
في القاهرة انضممت إلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان وكانت اول منظمة عربية من هذا النوع. حاولت فتح فرع عراقي لها في سورية، يضم د. مبدر الويس رئيس الحزب الاشتراكي الناصري والناشط طارق الدليمي وآخرين. ولا أريد الخوض في تفاصيل إجهاض هذه المحاولة والمسؤول عن ذلك فهذا حديث ذو شجون.
وعندما التجأت إلى كندا أواخر 1989، كانت أول منظمة التحقت بها وأصبحت ناشطاً فيها هي: المنظمة الكندية لضحايا التعذيب.
* * *
لماذا اتذكر، الآن، كل ذلك؟
لأنه لم يعد السكوت ممكناً...
فما تناقلته، مؤخراً، الوكالات والمنظمات المحلية والدولية عن أنباء التعذيب في سجون سرية او علنية –لافرق- اهاج لدي كل ذكريات التعذيب التي تعرضت لها او كنت شاهداً عليها.
يقال انها حوادث متفرقة لا تشكل نهجاً ثابتاً في سلوك ادارات المواقف والسجون وبعض الاجهزة الخاصة، لكن ذلك ليس صحيحاً. فقد بات معروفاً، ومنذ أمد، ان التعذيب بات ممارسة تكاد تكون يومية في المواقف والمعتقلات والسجون، وان ما جرى كشفه، ليس سوى القمة من جبل الجليد.
يقال انه لا يمكن تفادي مثل هذه الاحداث، وان حماية "النظام الديمقراطي" تتطلب، احياناً، التعامل مع الأرهابيين و"اعداء العملية السياسية" بقدر من الشدة... حماية للناس و"للديمقراطية"! لكن ألم تكن هذه الحجة ذاتها، التي برر بها النظام الدكتاتوري الوحشي كل جرائمه؟ وأي قدر من التعذيب مسموح به لحماية النظام؟ ذلك أن ماكنة التعذيب ما أن تنفلت حتى لا يستطيع احد إيقافها وقد يكون من بين ضحاياها الذين اطلقوها، او مارسوها، وتجربة الجلاد ناظم كزار ليست ببعيدة.
اية ديمقراطية هذه التي تحتاج إلى مخالب وانياب واغتصاب وأدوات تعذيب لحماية نفسها؟..
يقال ان ثقافة حقوق الانسان لم تترسخ بعد وان الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى تشيع وتسود.
وهذا صحيح... لو كان الأمر يقتصر على حوادث معزولة منفردة، ولم يصبح ممارسة منتشرة، بل تزداد انتشارا، بحيث تكاد تصبح ممارسة رسمية يومية.
ويقال ان إشاعة هذه الأنباء في هذا الوقت يقصد بها توظيفها سياسياً لاضعاف هذا الطرف او ذاك، لكن ما يضعف الوضع القائم، والمسؤولين بشكل خاص، هو وجود هذا الضرب من الممارسة وليس انتشار أنبائها، فهي كانت ستنفضح وتنتشر، عاجلاً او آجلاً، ومعالجة هذا الأمر، التحقيق فيه حتى جذوره وقمته، وتقديم المسؤولين عنه إلى المحاكمة العلنية وإنزال القصاص العادل بهم، هو مقياس الجدية في الموقف من هذه الممارسة. أما محاولة الإرهابيين وبقايا نظام المقابر الجماعية، والتعذيب والاغتصاب والحروب وعصابات الاغتيال لتوظيف هذه الوقائع سياسياً فأن الناس تدرك بسليقتها أنهم وهم الساعون إلى عودة النظام البائد آخر من يحق له الحديث، نفاقاً، عن التعذيب وهم الذين لم يدينوه حتى الآن وما يزالون يفاخرون به ويدافعون عنه.
أليس من المفارقة –بل من السخرية- ان تجري محاكمات رؤوس النظام السابق بدعوى التنكيل والتعذيب بالخصوم، بينما تجري ممارسة الأساليب ذاتها او ما يشابهها او يدانيها؟ أنه لمن المؤسف حقاً، بل المؤلم والمريع ولا يمكن تبريره، تحول بعض الضحايا الى جلادين او متساهلين ازاء الجلادين الجدد.
اعلم ان كتابتي ستستفز البعض، وقد يعترض عليها آخرون. لكني سأكون نذلاً، متواطئاً،خائنا لضميري و لكل مبادئي، لكل ما تعلمته وكرست حياتي من أجله، لو سكت..
لأنه لم يعد السكوت ممكناً.
أنني أدعو، من فوق هذا المنبر، المعروف بدفاعه عن حقوق الانسان وأدانته للانتهاكات التي تتعرض لها، أدعو لاجتماع عاجل يضم مثقفين وأكاديميين وناشطين سياسيين واجتماعيين وممثلين للرأي العام من أجل إدانة هذه الممارسة، ومن أجل تشكيل:
اللجنة العراقية ضد التعذيب!
ذلك أنه لم يعد السكوت ممكناً..

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 05-05-2010     عدد القراء :  3141       عدد التعليقات : 0