الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
دجلة الخير ينحسر.. وكاتب عراقي يدعو لتخليده بالصور قبل اختفائه
الجمعة 24-08-2012
 
معد فياض/ الشرق الاوسط
ماذا بقي في بغداد، من بغداد؟ وماذا تبقى من معالمها الحضارية، أبنيتها، مساجدها وكنائسها، شوارعها، حدائقها، مقاهيها، أسواقها، مكتباتها، جامعاتها القديمة والحديثة، نهرها، نصبها الفنية، روحها، بهجتها وألقها، أغانيها وموسيقاها، مسارحها، ألوانها، دور السينما فيها، أزقتها العتيقة، بل الأكثر من هذا ناسها. لاشيء تبقى من بغداد في بغداد اليوم، فهي ليست بغداد الأمس، وهي ليست بغداد البغداديين، هي ليست بغدادكم أو بغدادنا، أو بغداد كما عرفها أي زائر لها في السابق.. إنها وببساطة بغداد التي هي ليست ببغداد، ليست المدينة التي كان يتبغدد فيها المقيم والزائر منذ أن بنيت.. وحتى خربت. «الشرق الأوسط» استغرقت أكثر من شهر في سطح المدينة وعمقها، حولها وفوقها، فوق أرصفتها وعلى ضفتي نهرها، وبين ناسها وفي أسواقها، بحثا عن روح بغداد الألقة، فلم نجد سوى بقايا مدينة تتخرب كل ساعة ويوم أمام أهلها، وبرصد شهود عيان بعضهم يبكي من أجلها، والبعض الآخر يمعن في خرابها، وبعض ثالث لا يهمه ما يراه من مشاهدها الحزينة. هنا اكتشاف جديد لبغداد.. التي لم تعد بغداد. بغداد التي خرجت من بوابات الحروب والدمار متألقة دوما، إلا في هذه المرة، فقد خرجت ولم تعد حتى اليوم. يتغنى البغداديون بنهرهم، بل غنوا كثيرا لدجلتهم، وقالوا «على شواطئ دجله أمُر (أمشي)»، وتغزل بهذا النهر غالبية كتاب العراق، لكن قصيدة الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري «يا دجلة الخير» والتي يستهلها، قائلا «حييت سفحك من بعيد فحييني، يا دجلة الخير يا أم البساتين» تبقى هي الأجمل والأشهر على الإطلاق. حياة بغداد والبغداديين مرتبطة بدجلة، بهذا النهر الذي يجري هناك منذ الأزل، ومن أجله اختار الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بناء بغداد على ضفتيه عندما «رغب في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار بغداد على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها عام 762 واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام 766 وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة 768 بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقرا لابنه وولي عهده المهدي، وشيد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها. ينبع نهر دجلة من مرتفعات جنوب شرقي هضبة الأناضول في تركيا ويمر في سورية 40 كم في ضواحي مدينة القامشلي ليدخل بعد ذلك أراضي العراق عند بلدة فيش خابور، وتصب في النهر مجموعة كبيرة من الروافد المنتشرة في أراضي تركيا وإيران والعراق لعل أهمها وأطولها الخابور، والزاب الكبير، والزاب الصغير، والعظيم، ونهر ديالى. ويتفرع دجلة إلى فرعين عند مدينة الكوت هما نهر الغراف والدجيلة، ويلتقي نهر دجلة بنهر الفرات عند القرنة في جنوب العراق بعد رحلته عبر أراضي العراق ليكونا معا شط العرب الذي يصب في الخليج العربي، ولكن تغير مجرى الفرات في الوقت الحاضر وأصبح يلتقي بنهر دجلة عند منطقة الكرمة القريبة من البصرة، ويبلغ طول مجرى النهر نحو 1718 كيلومترا. البغداديون يرتبطون بنهرهم مثل الطفل بالأم، يهرعون إليه في فرحهم وهمهم وتعبهم واسترخائهم وعطشهم وجوعهم، وفي صيفهم وشتائهم. ترى ماذا سيكون شكل وحياة ووضع بغداد وأهلها بلا نهر دجلة، بلا شريانها الحياتي الذي قامت بغداد على ضفتيه ومن أجله. قبل سنوات نشر كاتب عراقي معروف مقالا دعا فيه البغداديين إلى التقاط صور تذكارية لنهر دجلة قبل أن يختفي، وهناك من فسر هذه الدعوة، واختفاء النهر بسبب القصور والفيلات التي بنيت في عهد النظام السابق على مسافات ومساحات شاسعة من النهر، إذ لم تعد هناك سوى مساحات ضيقة يستطيع البغداديون أن يطلوا على نهرهم من خلالها لازدحام أبنية عائلة وأقارب الرئيس العراقي السابق صدام حسين على قسم من ضفاف دجلة، وسيطرتهم على مزارع وبساتين كثيرة تطل على القسم الآخر من ضفاف النهر، وبالتالي منع الناس من الاقتراب من هذه الأبنية أو البساتين والمزارع. اليوم قد تتكرر الدعوة ذاتها، ولأسباب أخرى مضافة إلى المذكورة أعلاه، وهي أن مياه النهر بدأت تنحسر، وبدأ دجلة يضيق أكثر فأكثر، وتقوم اليوم منشآت وزارة الموارد المائية بكري منتصف النهر ودفن جانبيه بالتراب والطمي الذي يخرج من قاعه، فلم نعد نرى سوى ساقية عريضة بعض الشيء تجري المياه في وسطها، وتتسع ضفافها، وما كان في الأمس القريب يشكل مجرى نهر دجلة أصبح اليوم أرضا ستقام عليها بعد وقت قريب المزيد من الأبنية وحسب رغبات من يحكم بغداد. لكن المهندس سالار بكر سامي، ماجستير في الهندسة المدنية، مدير عام التخطيط والمتابعة في وزارة الموارد المائية، والذي تختص دائرته بإعداد الخطط الخاصة بالموارد المائية والتخطيط لمشاريع الري والسدود وأعمال الكري وإنعاش الأهوار، يوضح أن «حفر نهر دجلة من منتصفه يجري وفق دراسات، فهذا يعني زيادة عمقه على حساب عرضه، والتقليل من نسب تبخر المياه». لكن منظمة المياه الأوروبية تتوقع جفاف نهر دجلة في العراق بحدود عام 2040 بسبب السياسة المائية التي تعمل بها تركيا. وفي تقرير لها قالت «إن نهر دجلة يفقد سنويا 33 مليار متر مكعب من مياهه». وحسب تأكيد دي مونيت، المدير التنفيذي لمنظمة المياه الأوروبية، فإن «العراق يعاني أزمة مياه حادة تحتاج إلى جهود دولية مكثفة»، مشيرا إلى أن «انخفاض المياه بهذا المقدار سيحرم 696 ألف كيلومتر من الأراضي الزراعية من المياه». ويؤكد مدير عام التخطيط في وزارة الموارد المائية العراقية أن هناك 14 سدا على نهر الفرات في تركيا، ذات طاقة تخزينية تبلغ 19 مليار متر مكعب، في حين تبلغ طاقة نهر الفرات 30 مليار متر مكعب، وهذا يعني أنه حتى في موجات الفيضان فهم يخزنون المياه ولا يعطونها لنا، ولسورية ثلاثة سدود على الفرات بطاقة تخزينية تبلغ 16 مليار متر مكعب، وأكبر سدودها هو سد طبقة». ويطمئننا المهندس سالار بكر سامي بأن منسوب مياه نهر دجلة لن يتأثر، وقال لـ«الشرق الأوسط» «على الرغم من أن هناك خطة لإنشاء 8 سدود رئيسية في تركيا على نهر دجلة، طاقة خزنها تبلغ 23 مليار متر مكعب، وتم تنفيذ سدين صغيرين منها حتى الآن، وبطاقة تخزينية بحدود أكثر من مليار متر مكعب فإنها تؤثر على إيرادات ومناسيب نهر دجلة من المياه»، مشيرا إلى أن هناك 9 سدود كبيرة وأخرى صغيرة في العراق، أهمها، دوكان دربندخان والموصل وخزان الثرثار والحبانية، وكل هذه السدود والخزانات نفذت أو تم التخطيط لها من قبل مجلس الإعمار الذي كان برئاسة نوري السعيد، رئيس وزراء العهد الملكي، مع تنويه مفاده، أنه «كلما نضيف سدا فإننا نزيد من السيطرة على الموارد المائية». الغريب، واعتمادا على معلومات المهندس سامي فإنه «لا توجد أية اتفاقيات منظمة بين العراق وسورية حول حصة كل دولة من الدول من مياه أي نهر سواء كان دجلة أو الفرات»، منبها إلى أنه «منذ عام 1991 حتى 2006 كانت المفاوضات بين العراق وتركيا وسورية حول موضوع حصة العراق من مياه دجلة والفرات متوقفة وأعدناها على مستوى اجتماعات الوزراء والخبراء، ونحن نعتبر هذه الاجتماعات هي البداية». يضيف المهندس سامي، قائلا «لقد وقع نوري السعيد، رئيس الوزراء في العهد الملكي، اتفاقية عام 1946، ألزم خلالها الأتراك بعدم تنفيذ أية سدود أو مشاريع على الأنهر إلا بموافقة الطرفين، لكن الجانب التركي لم يعمل بها، ولا توجد اليوم أي اتفاقية، كما أن الأتراك لا يعيرون أهمية لهذا». ويوضح مدير عام التخطيط والمتابعة في وزارة الموارد المالية، قائلا «نحن نحتاج إلى كامل الإيرادات من مياه دجلة والفرات، وفي المفاوضات هناك مبدأ يسمى الإرث، أو الاستخدام التاريخي لمياه دجلة والفرات، فالعراق يستخدم مياه هذين النهرين منذ زمن النبي نوح، وتحمل مسؤولية الفيضانات والكوارث التي خلفتها مياه دجلة والفرات، كما أنه لم يكن هناك وعبر التاريخ سوى العراق الذي استخدم كل إيرادات النهرين وكان يطلق عليه تسمية وادي الرافدين أو بلاد ما بين النهرين، وهذا أحد أهم الأسس الدولية في التفاوض حول حقوقنا من المياه، ونحن نثير باستمرار هذه النقطة مع الأتراك والسوريين والإيرانيين». وعندما نسأله عن مناسيب نهر دجلة المنخفضة، كما تبدو ببغداد، يقول المهندس سامي، إن «نسب المياه عالية في نهر دجلة ولا تؤثر على النهر، وهناك خطط تشغيلية نطلق وفقها التصاريف من المياه حسب الحاجات الزراعية، فهناك تصاريف قبل سدة سامراء وبعدها»، معللا أسباب الجفاف التي أصابت الأراضي الزراعية إلى «قلة الأمطار والثلوج في أحواض التغذية في تركيا، وإيران خلال السنوات الثلاث الماضية». وينفي المهندس الخبير في شؤون المياه ما تردد عن وجود خطط سورية لتغيير مجرى نهر دجلة، موضحا «لا توجد خطة لتغيير مجرى نهر دجلة في سورية. نهر دجلة مشترك بين تركيا وسورية بنحو 40 كم، وبين العراق وسورية بـ 8 كم، وهذه المنطقة عالية جدا بين تركيا وسورية بحيث لا يمكن تغيير المجرى في سورية، ويغيرونه لمن وإلى أين؟»، منوها إلى أن «هناك اتفاقية بين العراق وسورية، وقعتها الحكومتان في 2002 ومودعة نسخة منها في الأمم المتحدة تتعلق حول مشروع سوري لجر أكثر من مليار متر مكعب من مياه نهر دجلة ووفق محددات معينة بأن تكون هناك مراقبة مشتركة وأن تكون المحطة داخل الكيلومترات الثمانية وأن مياه البزل لا تعود إلى النهر، وما نسمعه اليوم أن هناك فكرة من قبل السوريين لتغيير موقع المحطة، ونحن نحاول معرفة ذلك من خلال وزارة الخارجية لنعرف كيف نتصرف على ضوء الاتفاقية». ويشير المهندس سامي إلى أن هناك خطة لدى وزارة الموارد المائية بإنشاء 47 سدا من السدود الكبيرة والصغيرة على نهري دجلة والفرات وفي الصحراء الغربية، لكننا نحتاج مبالغ كبيرة جدا لتنفيذها، ونتصرف وفق التخصيصات». وعلى الرغم من أن ما ورد هنا هو كلام علمي وصادر من متخصصين، فإننا ما زلنا نرى أن نهر دجلة ينحسر على نفسه، ولو نظرنا إليه من الجو، ومن ارتفاع منخفض، فسوف نرصده كساقية مياهها تقاوم كل الظروف من أجل أن تواصل جريانها. وحسب الكاتب العراقي ذاته الذي كان قد دعا لتصوير نهر دجلة، فإن «الحال اليوم لا تختلف عن الأمس، فالحكام الجدد سكنوا في قصور وفيلات أركان النظام السابق وجيوش حمايتهم تمنعنا من مشاهدة دجلة». وقال لـ«الشرق الأوسط» التي التقته ببغداد «مع انحسار المياه من النهر أشدد اليوم على أهمية التقاط صورة تذكارية مع نهر دجلة قبل أن يختفي من بغداد».

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
بيئة كوردستان: انبعاثات "النشاطات البشرية" أكبر عوامل التغير المناخي
"ليس هناك خطأ".. منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة
أخطر مهربي البشر.. سلطات كردستان تعلن اعتقال "العقرب"
تعليق أمريكي على تخريب "مساعدات غزة"
مصر تلغي اجتماعاً مع مسؤولين عسكريين اسرائيليين
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
المعتقلون الفلسطينيون.. أجساد عارية وعيون معصوبة وقطع غيار بشرية
إضاءة ومساهمة في مؤتمر نسائي هام بالسليمانية
تصويت بغالبية كبرى في الجمعية العامة تأييدا لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة
صراع الممرات: طريق التنمية من منظور تاريخي وباب التعاون بين بغداد وانقرة
"النجباء" توعدت بالانتقام وفصائل عراقية تقصف إيلات
اللجنة الثقافية في الاتحاد الديمقراطي في كاليفورنيا تضيّف الدكتور سلام يوسف في (قراءات في ملحمة كلكامش)
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة