الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
شارع الرشيد.. ذاكرة تبحث عن نفسها وسط الإهمال والتجاوزات
الأربعاء 07-11-2012
 

يعول على مشروع بغداد عاصمة الثقافة لاستعادة هويته

بغداد – بشير خزعل

 الزائر لبغداد لن يرى حقيقة تاريخها ما لم يتجول في شارع الرشيد وينحدر من درابينه الضيقة الى عوالم الأيام الخوالي، شناشيل بيوتاته مازال بعضها قائما يئن ويتكئ مكابرا على انفاس أهله العالقة في الشبابيك والجدران. الشعراء وقراء المقام وأصحاب الذكر والادباء والفنانون والساسة لطالما اجتمعوا على ارائك مقاهيه في المربعة والميدان والسراي، وعلى ترابه مرت أقدام ملوك العراق وعلى أسفلته الحار سال دم الزعيم، فيما ظل حكمت الحلاق في دكانه الصغير القريب من (كعك السيد) الشهير في أول الشارع ينتظر قدوم زعيمه ليحلق شعره كما اعتاد في نهاية كل شهر..

(الحاج زبالة) غابت صيحاته عن بداية يوم جديد يعصر فيه شربت الزبيب ليقدمه للعامة والخاصة من وزراء وسفراء وتجار اعتادوا المرور من (زيران) الزبيب المنقوع لأيام.. في ذلك الشارع انتزع الرصافي له مكانا ليلقي الشعر على ذاكرة المتبضعين، فالأسواق قد توسعت والبضائع وألوانها شغفت القلوب والأنظار عن أبطال الادب والشعر.. سوق الصفارين لم يعد يطرب المار بضجيج المطارق، فالأيدي نال منها الزمن وامست ترتجف خوفا من النحاس بعد ان كانت تطوعه مثلما تريد، لكن اعمدة الشارع مازالت تحمل على رؤوسها تلك الأسطح المتهاوية التي غابت عن شرفاتها حسناوات بيوت الشناشيل واتخمت ببضائع وانقاض لا تسر الناظرين.

شاهد عيان

سالم حسن صاحب محل لبيع الملابس الرجالية قرب مقهى الزهاوي، قال: املك هذا  المحل منذ ثمانينيات القرن الماضي، اذ كنت طالبا في المرحلة الاعدادية أساعد والدي بعد انتهاء الدوام وفي أيام العطل، ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا لاحظت ان الشارع يفقد خصوصيته بفعل التغييرات العمرانية والتجاوزات على طرازه المعماري، لاسيما من قبل بعض التجار والمنتفعين ممن يستغلون الموقع التجاري والسياحي للشارع، تقابل ذلك جهود متواضعة من قبل امانة بغداد بالقياس الى ما يحصل في الشارع من استغلال وعبث في المباني والبيوتات التراثية القديمة التي هدم الكثير منها وتم تحويلها الى محال تجارية وورش نجارة ومخازن، لافتا الى ان شارع الرشيد له تاريخ مهم في حياة العراقيين ويمكن ان يكون أحد أهم المرافق السياحية في بغداد اذا ما تم الاعتناء به وتطويره من قبل متخصصين بأعمار المناطق التراثية.

خصوصية الشارع

عبد الله العاني (67) عاما احد رواد مقهى الزهاوي استذكر  بعض الجوانب المشرقة من تاريخ الشارع قائلا: من المؤسف ان يتحول وضع شارع الرشيد الى هذا المستوى من الاهمال وهو يمثل اكثر من نصف تاريخ العراق السياسي والثقافي والفني، هذه ( الجادة) التي لا يتجاوز طولها الكيلومتر شهدت أحداثا وثقها التاريخ، فقد كانت مسرحا للمظاهرات والثورات ومقرا لأدباء ومفكرين وشعراء وفنانين اسهموا في اغناء القيم الاجتماعية للجماهير التي كانت تنظر للشارع  كوسيلة ضغط على صنع القرار آنذاك. ولفت العاني الى بعض الذكريات التي كان شاهدا عليها عندما كان شابا في بداية ستينيات القرن الماضي منها ان الرئيس عبد السلام عارف كان يمر بسيارته من الشارع ويتوقف عند محل الحاج زبالة ليتناول قدحا من شربت الزبيب مع سائقه ثم يمضي، والزعيم عبد الكريم قاسم كان يحلق شعره في محل حكمت محمد الحلي وهو مازال قائما حتى يومنا هذا وغيرها من المحال والبيوتات التي كان يرتادها الفنانون والادباء والساسة، مشيرا الى ضرورة ان تلتفت الحكومة وليس امانة بغداد فقط الى أهمية الشارع في حياة العراقيين لانه  معلم مهم من معالم العاصمة التي ستفقد رونقها وتراثها اذا ما تم اهماله وطالته يد التغيير والحداثة التي هدمت الكثير من معالمنا التراثية امام انظار القائمين على حمايتها وصيانتها.

البطال ونوري السعيد

هاشم حمه امين اقدم نجار في شارع الرشيد كما دل عليه بعض اصحاب المحال ورواد الشارع، وجدناه يجلس على اريكة في مقهى ام كلثوم وهو رجل تجاوز السبعين من عمره لكنه مازال في صحة جيدة، تحدث عن بعض ذكريات الشارع التي عاشها وسمع عنها عندما كان يعمل في ورشة ابيه في صناعة الابواب والشبابيك الخشبية لبيوتات الشانشيل قائلا: استغرب ان تقف الحكومة والأجهزة المختصة عاجزة عن حماية تراثها وتاريخها وهو يسلب وينهب من قبل انتهازيين واشباه تجار، فالتاجر الحقيقي كما نعرفه في زماننا الماضي  له من المبادئ والقيم ما تضيف على شخصه الهيبة والوقار، وليس العكس كما نشاهده في وقتنا الحالي من صفقات ومساومات دنيئة لهدم خانات وبيوت تراثية قديمة وتحويلها الى محال تجارية تباع بآلاف الدولارات.

ويضيف قائلا: في دول أخرى هذه الشواخص تعد من الاملاك العامة التي لا يمكن التعدي عليها او الاخلال بجوهرها لانها تمثل تاريخ فترة معينة من حياة الشعب، وقد زرت باريس في سبعينيات القرن الماضي ووجدت شارعا يعود الى حقبة الثلاثينيات مازال على وضعه من دو تغيير ويرتاده السياح ويدخلون بيوته ومحاله التي استملكتها السلطة وحولتها الى متاحف، كما علقت العديد من الالواح المؤطرة والمكتوبة باللغتين الفرنسية والانجليزية التي تحكي قصص بعض المواقف والحوادث التي شهدها الشارع في تلك الفترة. واضاف حمه وعلى ذكر القصص والاحداث مازلت اتذكر قصة الرجل الذي كان يقف في وسط شارع الرشيد (قرب موقع تمثال الرصافي الحالي) في منتصف اربعينيات القرن الماضي وينتظر مرور سيارة رئيس الوزراء نوري السعيد ليقوم بالصراخ عليه وشتمه، وكان السعيد ينظر اليه في كل مرة ويذهب في طريقه من دون ان يتفوه بكلمة واحدة، حتى ان الموجودين في الشارع من اصحاب المحال والساكنين فيه كانوا يصيحون على (جباره) وهو اسم الرجل (اجه البيك .. اجه البيك)  ويقصدون نوري السعيد  وليستمتعوا بشتيمة الرجل لرئيس الوزراء، وفي احدى المرات توقفت سيارة نوري السعيد وترجل منها سائقه وسأل جباره عن سبب سبه (للبيك)، فقال الرجل انه يريد ان يدخل السجن حتى يحصل على الطعام المجاني والعشرين فلسا التي تعطى للسجناء كراتب شهري لأنه عاطل عن العمل، فعاد السائق واخبر الباشا السعيد بقصة الرجل ثم مضى في طريقه، وفي اليوم التالي مرت سيارة رئيس الوزراء وعاود جباره شتيمته كالمعتاد، فأخرج نوري السعيد رأسه من السيارة وصاح على جبارة: (لو تموت ما اسجنك).

رأي المختصين

الباحث في شؤون الآثار والتراث طارق عبد الخالق المعموري اكد ضرورة الاسراع في ايجاد حلول سريعة لمعالجة تلاشي واندثار الابنية والاماكن التراثية  التي تعاني من اهمال وتجاوزات كبيرة بسبب جشع بعض التجار والسماسرة وفساد البعض من موظفي المؤسسات المعنية على حماية هذه المناطق، مشيرا الى سهولة التحايل على القانون وهدم العديد من المباني التراثية تحت ذريعة الترميم كما حصل مع خانات بغداد القديمة في منطقة شارع النهر، لافتا الى ما يحصل في شارع الرشيد من ترميمات من قبل اصحاب المحال لتوسعة محالهم وبناء مخازن في الطبقات العلوية من دون الالتفات الى خصوصية هذه المباني كونها من التراث البغدادي ويجب ان لا يجري اي تغيير ما لم يتم الاشراف عليه من قبل الجهات المختصة في امانة بغداد وهيئة الاثار والتراث، لكن ضعف القانون ووجود حالات فساد اداري ومالي هما اللتان سولتا للكثيرين العبث بتاريخ المدينة وتراثها، الامر الذي يشكل خطورة كبيرة على معالم  بغداد وديموغرافيتها التي يمكن ان تجعل منها مدينة ضائعة في حداثة الحاضر الذي لا يبرر التخلي عن ارثنا التراثي والتاريخي.

عاصمة الثقافة

حكيم عبد الزهرة مدير العلاقات والاعلام في أمانة بغداد اشار الى  وجود خطة لتطوير شارع الرشيد من منطقة الباب الشرقي من جهة شارع الخيام وصولا الى مبنى وزارة الدفاع القديمة في منطقة الميدان، تشتمل على اعادة واجهات المباني والمحال والاسواق المحصورة بين شارع النهر ونهر دجلة، الدراسة التي اعدتها امانة بغداد كما يقول عبد الزهرة، تتضمن العمل على بناء البنى التحتية للشارع ومعالجة مشكلة المرور لغرض تحويل المنطقة الى مركز ثقافي ضمن مشروع (عاصمة الثقافة)، لكن التخصيصات المالية هي التي أخرت المباشرة بالمشروع الذي يتكون من اربع مراحل ويحتاج الى موافقات حكومية، لاسيما في موضوع الاستملاكات من المواطنين في بعض الاماكن من الشارع. عبد الزهرة اكد ان امانة بغداد مستعدة لتنفيذ مشروع تطوير شارع الرشيد على اكمل وجه، لكن عدم تسلم التخصيصات المالية البالغة 150 مليار دينار وحتى بعد تقليل المبلغ الى 120 مليار دينار حتى اللحظة هو الذي اخر المباشرة بالعمل.

 وفيما يخص التجاوزات الحاصلة في الشارع، يقول حكيم عبد الزهرة ان امانة بغداد مستمرة في رفع التجاوزات ومحاسبة المتجاوزين وعدم منح اية اجازة بناء او ترميم على المعالم التراثية في الشارع ما لم تشرف الجهات المختصة في امانة بغداد بشكل مباشر على أعمال الترميم أو البناء.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
كفة رئيس البرلمان تنحرف داخل الإطار لصالح مرشح المالكي محمود المشهداني
بيئة كوردستان: انبعاثات "النشاطات البشرية" أكبر عوامل التغير المناخي
"ليس هناك خطأ".. منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة
أخطر مهربي البشر.. سلطات كردستان تعلن اعتقال "العقرب"
تعليق أمريكي على تخريب "مساعدات غزة"
مصر تلغي اجتماعاً مع مسؤولين عسكريين اسرائيليين
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
المعتقلون الفلسطينيون.. أجساد عارية وعيون معصوبة وقطع غيار بشرية
إضاءة ومساهمة في مؤتمر نسائي هام بالسليمانية
تصويت بغالبية كبرى في الجمعية العامة تأييدا لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة
صراع الممرات: طريق التنمية من منظور تاريخي وباب التعاون بين بغداد وانقرة
"النجباء" توعدت بالانتقام وفصائل عراقية تقصف إيلات
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة