اشترك الجواهري والرصافي في الموضوع والإيقاع ، وفي النقد الساخر ، إذ قال الجواهري في "تنويمة الجياع" : وكانت قصيدة الرصافي في المضمون والإيقاع نفسه ، وقد سبق الجواهري إلى ذلك ، ولا شك في أن القول في موضوع واحد ، أو متشابه إلى حد ما ، يوقع الشاعر في التناص ، ويجعل المتلقي يستقبل كلاما سمعه سابقا لكنه يتناغم مع آلامه . يقول صلاح نيازي في كتابه " الاغتراب والبطل القومي" : ( المسافة بينك وبين الموضوع الذي تريد معالجته سواء أكان فكرة مجردة ، أم حالة ذهنية ، أم شيئا ماديا ملموساً ، هي التي تحدد لغتك . كما تحدد شكل الكلمات ، وبناء العبارات ) ، لذلك جاءت قصيدة الجواهري ، وقبله الرصافي ، يسبقها النداء ، ثم أفعال الأمر وأدوات النهي ، والتوكيد :
نامي
ياجياع الشعب ...
ياقوم لا تتكلموا
والقصيدتان مبنيتان على أفعال الأمر والنهي لكنها ( أوامر خيبة ) ، وهذا النوع من الشعر يضاعف الأزمة النفسية لدى المتلقي ويجعله أينما التفت يسمع :
لا تتكلموا ..
ناموا ...
وهو خطاب يراد منه استفزاز المتلقي ، لكن هذا الاستفزاز لا يخلو من أن قائله في معزل عنه ، لأنه يقظ وجياع الشعب نائمون ـ عند الجواهري ـ وهو ينطق الكلام الحلال ، وعامة الناس صامتون لأن الكلام محرم عليهم .
ويتساءل صلاح نيازي عن خطاب الشاعر ، هل يخاطبهم وهم بمعزل عنهم ( أم أنه يتحدث عنهم ، أو يتحدث بالنيابة عنهم ويتقمصهم ، أو أنهم تلبسوه وتلبسهم فأصبحوا كتلة متواشجة واحدة ؟ هذه المواقف الخمسة هي التي تحدد المسافة وبالتالي اللغة الشعرية ) .إن الشاعر بمعزل عنهم تماما ـ فإذا كان يتحدث عنهم فهي سخرية تامة وشعر يدعو إلى التقاعس وعدم النهوض ويعزز الخيبة ؛ أو يتحدث بالنيابة عنهم ، فإنه لا يحتاج أن يوبخهم على نومهم ، أو على صمتهم عن الرصافي، إنما يحتاج إلى لغة أعنف من هذه ومسافة أقصر بينه وبين المخاطب المتمثل بالسلطة الظالمة التي أجبرتهم على النوم ـ الجواهري ـ و الصمت ـ الرصافي ـ وبهذا ، سيقتص لهم من ظالميهم . والشاعر ـ في هذه الحال لم يتقمصهم .
انه اضطر إلى أن يتلبسهم ويتلبسوه ، بعد صدمة واجهته في إحدى ساحتي تواجده ، السلطة أو الجماهير ، وحيث صدمته السلطة ، جاء الى الجماهير ومارس السلطة عليهم ، وأغراهم بأنه يتلبسهم كي يتلبسوه ويخرجوا معه ، مدعيا انه خرج معها ولم يخرج بهم بعد أن خاب ظنه في السلطة .
إن أفعال الأمر وأدوات النهي تؤكد أن الشاعر يريد قيادتهم ، لذلك جاء خطابه مستفزا لصمتهم ، أو مقلقا لنومهم .
لذلك نرى أن القصيدتين ، هما ، من أثر السلطة في الشعر ، وأثرها في البناء الفني ، واشترك الشاعران في البحر، وكان للميم المضمومة عند الرصافي وقعها الحماسي ، والميم المكسورة عن الجواهري دلالة الخيبة والحسرة . والصمت والجوع هما أزمتا الشاعرين اكثر مما هما أزمتا الشعب المبتلى بالسلطة وشاعريها .
فالجواهري تكلم وصدح لكنه مازال جائعا ، ومازال همه ان يكون هو السلطة لا غيره ، أما الرصافي فكل همه ان يعود يتكلم ، لأن كلامه سينهي جوعه الذي أدركه بعد غنىً ، وهو مدرك بأن كلامه سيغنيه .
هناك مشتركات كثيرة بين والرصافي الجواهري ، فكلاهما يمدح السلطة وكلاهما يهجوها ، متى ما شاءا فعلا ، وكلاهما تربطه بالحكام علاقات طيبة ، وهما ممن لا يستطيع التفكير شعريا دون وجود حاكم خصم أو حاكم صديق ، فإن كان الحاكم خصما فإنه سيكون خصما للشعب بسبب قوة "إعلامية" الشاعرين وما يحظيان به من حب وانتشار واسع لدى الجمهور .
إلا أن الرصافي أسس واطمأن إلى اسمه ، وسبق الجواهري في هذا المجال ، وحين كان هو والزهاوي طرفي جدل ونقاش وشغلا الناس في خلافاتهما ـ وكلاهما دخل البلاط العثماني ـ لم يكن الجواهري قد لمع شاعرا .
وبمعنى أدق ، إن الجواهري على الرغم من الأزمات الحياتية والنفسية التي عاشها ، لم يعش الوضع النفسي الذي عاشه الرصافي.