كانت القيمة المعنوية لبغداد لدى رايت لا تقل عن نيويورك التي تميزت بقربها الرئيسي من البحر وبتمثال الحرية الذي يرى من مسافات بعيدة، لذلك صمم رايت نصب هارون الرشيد بحجم مقارب لتمثال الحرية، واعتمده كعنصرتصميمي لشمال الجزيرة و دلالة مميزة تُرى من مسافات بعيدة، وتأكد وجود جزيرة جنة عدن. كان التمثال يواجه الشرق وهذه سمات التماثيل في كل الحضارات القديمة العراقية والمصرية مثل أبو الهول وغيره.

اقترح رايت تشيد النصب من الكونكريت وتجليده بصفائح الحديد المذهبة. يجلس التمثال على مدرج يشبه الملوية نحتت على سطحها جِمال بهيئة قوافل أشارت الى التجارة العالمية وخطوطها التي كانت تنتهي ببغداد مثل خط الحرير وطريق التوابل وغيرها من طرق التجارة. وقد اقترح (الملوية) مفرغة من الداخل لأجل استغلالها للأغراض السياحية والخدمية.

كان نصب لهارون الرشيد –وليس لأبي جعفر المنصور(مؤسس بغداد) - محط اهتمام رايت وذلك لأن عصره الذهبي كان قد تميز بازدهار العلوم والمعرفة.

كانت الحكومة العراقية تزمع بناء جامعة لمدينة بغداد في منطقة الجادرية ولم يكن من مهام رايت تصميمها، ولكنه مع هذا قدم تصميما متكاملا بها وقد كانت مقابلة لجزيرة عدن وإلى الجانب الغربي من ضفة النهر وتم ربطها بالجزيرة من خلال جسر عالٍ يبدأ بشارع الملك فيصل الثاني وينتهي بالحرم الجامعي، حدد رايت الحرم بجملة من الحواجز الترابية الدائرية التي سماها بالمنهج الدراسي (curriculum) لتأكيد سمة التصميم العامة و تعريف الحرم الجامعي وأضاف له الطرق ومواقف السيارات التي تخدم احتياجات النقل في الحرم الجامعي، ثم حجزمساحة داخل الحرم خالية من حركة السيارات للمشاة فقط، وأضيفت لها النافورات والحدائق لتميّزها وخلق بيئة الحدائق الطبيعية مع مرافئ.

هذا المنهج(curriculum) (لعل رايت كان يقصد النهج) ، كان الكيان الوسطي للجامعة وهو مركز التصميم الذي يوحد الجميع وتعبيرحقيقي في تكوينه لكلمة جامعة، تفضي اليه جميع مرافق الجامعة المختلفة من مباني الإدارة والكليات والأكاديميات، وفي وسط هذا الحرم الجامعي تم توقيع الاستوديوهات وأبراج التلفزيون والإذاعة المستدقة العالية التي تعطي سمة المنائر العالية التقليدية التي يتميز بها الشرق ولكن بشكل حديث يؤكد شكل قاعدة الجامعة الترابيه شكل الزقورة ولكن بشكل دائري يحاكي رايت بها شكل بغداد الدائرية التي وضعها الخليفة المنصور في القرن الثامن الميلادي.

في مجسم (موديل) تصميم رايت لجامعة بغداد ومرافقها،على المسار الرئيسي بين الجسر الكبير وشارع الملك فيصل ، وضع رايت جملة من الاكشاك بشكل قباب تشكل سوقا مفتوحا من الأسفل كالأسواق العربية وتخزن المواد المعروضة في القباب بعد انتهاء النهار في أكشاك تشكل السوق العربي المفتوح (البزار) والقباب تستعمل كمخازن فقط.

مهمة جديدة

كانت قدعهدت إلى رايت أثناء وجوده في بغداد مهمة جديدة وهي إعداد تصاميم لبناية البريد المركزي في منطقة السنك ، وكانت حينها منطقة مكتظة بالسكان وتشكل قلب شارع الرشيد حيث الفنادق الفخمة والمحال التجارية المهمة، هذا الموقع يقف بالضد من موقع جنة عدن الفسيح ذي النشاطات الفنية الاجتماعية على الخلاف من مبنى البريد المميز بازدحام السابلة والسيارات وبضوضائه الصاخبة وبموقعه الضيق الملاصق لبناءالمدينة الكثيف. كان تحديا مهما، أظهر لنا الوجه الآخر لرايت الوظيفي الذي جعل من هذه المبنى أول بناية صديقة للبيئة ونموذجا للعمارة المستدامة التي لم تكن معروفة في حينها لا في العراق ولا في خارجه ، وقد نسجل هنا هذا التصميم الرائد الأول في ما يسمى بالبناء المناخي الحيوي (BioclimaticBuilding) في الشرق الأوسط وقبل حركة المباني الخضراء بسنين، كما وصفها رايت: "هادئة في الأسلوب سمتها عضويه وتستحق أن تدعى عمارة حديثة."

(Quit instyle, organic in character, worth to be called modernarchitecture ).

دائرة البريد المركزي في السنك ، الموقع الذي كان مخصصا لبناية رايت

في شارع الرشيد كما يبدو من الموقع باتجاه الباب الشرقي والذي لم يتغير كثيراً عن ما شاهده رايت في حينه.

هدف رايت من هذا البناء أن يكون اقتصاديا غير مكلف لذلك اقترح أعمدة حديدية تملأ بالكونكريت لتشكيل هيكل البناء ، أما التسقيف فقد اقترح أن يكون كونكريتيا مزفتا بشكل جيد يمنع تسرب ماء المطر ومن حديقة السقف المقترحة ذات الأرضية الترابية المهيأة لزراعة الظليات على المشبكات السقفية الخضراء المقترحة والمتعارف عليها في العمارة المحلية(السيباط) حيث تؤمن الحماية من أشعة الشمس الحارقة في بغداد وتحافظ على الطاقة الإيجابية (Passive) وكذلك لتحقيق مبنى عضوي (Organic) كما أكد هذا المفهوم بجعل زجاج النوافذ محميا وأمامه متسلقات توفر الظل والرطوبة، هذا النهج يضاف الى رصيد العمارة العضوية العراقية والعالمية.

يتألف المبنى من ثلاثة طوابق وطابقين (مسروقين (mezzanines وسرداب لتخزين المعدات مع حديقة خارجية بمستوى الشارع، لقد راعى رايت ارتفاعات الشارع المحيطة والمصمم لها من قبل التصميم الأساسي.

وسط المبنى على شكل صحن البيت العربي الإسلامي يحتوي على نافورة تُرى من الشارع العام.

مصير تصاميم رايت

عمل رايت ولمدة ثمانية أشهر بشكل متواصل على التصاميم وأنجزها وبوقت سريع كما يلاحظ من هذا النص:

(جيد..على كل حال لا أعلم أن كان هناك ثمة أمل لمشروع بغداد.. أنا على عجالة من أمري. عليّ تجميعه وتقديمه لهم، قبل فوات الأوان... يبدو أني قد جئت على نهايات الامور لا أعرف أي انطباع سوف أعطي ومع هذا فأني سأحاول .)

كم كان هذا الرجل يحترم مهنته وإلى أي مدى كان يعتز بهذا العمل، هذا رايت العظيم قلق ويعتقد لربما أنه قد لا يوفي بالواجب أمام المهندسين العراقيين. إنه لا يحترم عمله فحسب وإنما يحترم المهندسين العراقيين، لذا يأمل أن يقدم العمل الجيد لكسب رضاهم، هكذا كان يحترم الاستشاري المعماري الأجنبي الاستشاريين العراقيين أو الجانب المفاوض.

بعمل دؤوب ومتواصل وبعد ثمانية أشهر أكمل رايت الجزء الأكبر من مخططاته في بداية مايس. وكانت بإظهار جيد وبعدد كبير من الرسوم والمخططات المعمارية، وأرسلها إلى مجلس الإعمار في بغداد وكان فرحاً جداً وفخوراً بهذا الإنجاز وهو يعرض التصاميم في مكتبه ويتحدث عنها في الأوساط المعمارية، كما عرضها لأفراد الجالية العراقية في أمريكا واعتبرها خيرة ما أنتج في سنيّ حياته الأخيرة. تأخرمجلس الإعمار في الإجابة وجاءت ثورة تموزلتضع خاتمة حزينة لهذا الجهد حيث اعتبرته مشروعا خياليا ضخما مكلفا قد لا يمكن تنفيذه في الحال وذلك لتوجه الحكومة للإصلاح وإعمار الأمور الملحة مثل الإسكان وبناء المدن الجديدة، واكتفت بتصميم عملي لجامعة بغداد كان مقدما من قبل المعمار الرائد ولتر كروبيس ونفذت بالفعل أجزاء مهمة منه.

بعد شباط عام 1963 رميت المخططات والرسوم فوق سطح وزارة الإعمار الى حين أن وجد قسم منها المعمار معاذ الآلوسي، ولاحقا وجد المعمار سعد الزبيدي الجزء الآخر في بداية السبعينات من القرن الماضي.

أما رايت فلم يكن ليتنازل عن حلمه وحبه لبغداد وبعناده المعروف والذي يعزوه الكثير لأمه الألمانية، قرر تنفيذ أجزاء من المشروع في أمريكا وفي أريزونا بالذات حيث يشابه الجو هناك بيئة بغداد الى حد ما،وكان هذا آخرتصميم لرايت قبل وفاته في مايس عام 1959، لذلك تم اعتباره من التراث الوطني ودوّن عام 1985 في السجل الوطني للمواقع التاريخية (National Register of Historic Places).

تمكن رايت في حينها وقبل وفاته من إقناع الدكتور جرادي كمك Dr. Grady Gammage رئيس جامعة ولاية أريزونا بتنفيذ مسرحه الذي صممه لجزيرة عدن دون أن يضع تمثال علاء الدين والهلال (القوس قزح) في أعلى القاعة.

وقد خسر رايت أجور عمله بجلسة قمار مع كمك، وعمل جميع المخططات بدون مقابل بعد تحديثها بما تمليه طبيعة التقنيات الجديدة.

وقع رايت المبنى على شارع مشجر سمي باسم رئيس الجامعة (Boulevard.Grady Gammage) وضمن محور الحرم الجامعي الرئيسي وعلى مفرق طرق مهمة في (تمبا) بين شارع (ميل) المشجر وشارع (ابجي) المشجر.

أحاط المبنى بجملة من الأشجارالتي تشبه النخيل والمسماة نخيل (الواشنطونيات) ، وذلك لعدم شيوع زراعة النخيل في حينها في أمريكا وكان هذاالنوع من الأشجارأقرب الأشجارشبهاً بنخيل العراق.

حلت المراقي (Ramps) بدل القوس وشكلت كما هو شأن تصاميم رايت الوظيفة والشكل الحيوي من أهلة وأشباه دوائرأوجدت جمالية البناء ومايحويه من فضاء يتماهى مع بيئتها المحيطة وبالتالي محققة لما أتفق عليه باسم العمارة العضوية الوظيفية.

مسرح بكراديكمك التذكاري (Grady Gammage MemorialTheatre)

تمت المباشرة بالعمل بتاريخ 23 مايس 1962 بعد وفاة رايت وقد استغرق العمل فيه 25 شهراً، وتم افتتاحه بحفل لأوركسترا فلادالفيا الشهيرةPhiladelphia Orchestra ) ) بقيادة المايسترو المشهور يوجين أورمندي( (conducted by Eugene Ormandy

كانت أوبرا بغداد حاضره في كل شيء من الموقع الى تفاصيل الشبابيك والمراقي المنضدة احداها فوق الأخرى وبأشكالها الحيوية المثيرة .

المراقي بمختلف الارتفاعات لتسهيل الصعود والنزول وكانت القيمة الجمالية للفضائيات الخارجية المحيطة، وكما هي شأن عمارة رايت العضويه تتداخل بها الفضاءات الداخلية بالخارجية في منظر مثير متكامل مع الطبيعة والمنظر المحيط كما هو المنظر من صالة الإنتظار باتجاه الخارج .

لإبقاء السمة الدائرية كان جلوس المشاهدين يشكل هلالا يحتوي المشاهد به المسرح.

في جوارالمسرح كانت شبابيك القاعة الفنية تطابق شبابيك متحف الفنون التشكيلية في بغداد .

لم يعد هاجس بغداد يغيب عن بال رايت وكانت أمنيته في تحقيق هذاالحلم حاضرة في كل تصاميمه.

في مقاطعة مارينا، وفي مدينة سان روفائيل في كالفورنيا شُيد عام 1960 المركزالمدني للمقاطعة بتصميم كان قد أعده رايت قبل وفاته، وفي نفس الوقت الذي كان يصمم مسرح كمنك التذكاري في أريزونا.

أشرف على تنفيذ هذا الصرح الكبيرأحد أهم طلاب رايت وهو أيرون كرين ( Aaron Green) ، وقدأنجزعام 1962، أضيفت إليه لاحقاً قاعة العدالة التي بوشرالبناء فيهاعام 1966وأنجزت عام 1966وقداعتبرته منظمة اليونسكو جزءا من التراث العالمي.

يقع هذا الصرح بعيداًعن مقرالمقاطعة السابق في وسط مدينة سان رافائيل واختارله موقعا مثيار بين وادي ينفيريف المدينة ،وهذا شأن رايت في اختياره لمواقع مبانيه حيث الطبيعة المتميزة مثل بيوت ( البراري) وبيت الشلال وبالطبع جزيرة جنة عدن في بغداد.

الطبيعة عنصر أساس لجمالية المبنى لدى رايت ولاتكتمل لديه دراما الحدث المعماري دون أن يكون المبنى بمحيط جميل مثيرخلاب لتحقيق مايسميه بالعمارة العضوية الكائن الحي بالطبيعة يتأثر بالمحيط ويؤثرفيه.

يتكون المجمع من جناحين، الجناح الأصغر هو مبنى الإدارة والأكبر وقاعة العدل ومرافقها مرتبطة بمبنى دائري يحوي مكتبة المقاطعة، ويعد هذا المبنى أكبرالمباني الحكومية التي كلف بها رايت.

المجمع مؤلف من المبنى الرئيسي من ثلاث طوابق يبلغ طوله 180 متر ، ومبنى الإدارة من أربعة طوابق يبلغ طوله 270 متر، تقع قاعة العدل الدائرية في مستوى منخفض، وبقطر 24 متصل بطريق يؤدي الى منطقة وقوف السيارات.

وعلى المستويات الدنيا تشكل جماليتها الدرامية المعمارية وفي نفس الوقت تسهل الحركة في ربط المبنى بالمرافق الاخرى للمجمع.

تتميز واجهات المجمع الرئيسة الطويلة بأنصاف الأقواس الضخمة، التي كان رايت قد صممها لمبنى المتحف التاريخي في بغداد وأراد بها إضفاء شعور العظمة الى المبنى وإثارة المشاهد وهو يمر به عبر دخوله وخروجه من المبنى.

أعاد رايت استخدام أبراج البث اللاسلكية (الأهرام المستدقة ) التي كان قد استخدمها في تصاميم بغداد، نراها جميعا حاضرة في تصميم المركزالمدني في مجمع مارينا وكذلك القبة الزرقاء، لذلك وأنت تشاهد المبنى تخال نفسك وكأنك في منطقة ما في الشرق الأوسط بقبابها الزرقاء ومنائره وليس الغرب الأمريكي.

إن سرمدية الشكل تتعدى البلدان والقارات وتصبح كونيّة ومستقبليّة، وهذا ماجعل مخرج الفيلم المشهور (حرب النجوم) يختار هذا الموقع لتصوير فلمه وأعده بيئة المستقبل.

أنها مقاربة مهمة أن يتأثر المعمار بعمارة بلد ما وتكون جزءا مهما من تفكيره وأصبحت في أعماق ذاته، وأداته الذي يشكل بها عماره في بلد آخر وغير ملامحها فأضحت على أثره تلك الملامح عالمية، ذلك هو عنفوان حوار الحضارات الذي ينشده المثقفون الآن والذي كان رايت رائدها الأول وكما كان رائد الحداثة الأول.

لم يكن التأثير بإتجاه واحد فثمة تأثير لرايت على العراق، وتمثل ذلك بعمل قدمه الفنان خالد الرحال إلى أمانة بغداد عام 1977 وكان عين القبة والبرج الموجود في مجمع مارينا وجامعة بغداد المقترحة من قبل رايت، وقد أمال بعض الشيء القبة ليقترح بها شعور حركة القرص الذي كان يقدمه أمامنا في مطلع الستينات من القرن الماضي، حيث كان يأخذ صحن كوب الشاي العراقي ويتركه يسقط بحركة حلزونية على في مسار دائري مقترحا بذلك الحركة في القرص .

القبة الزرقاء ونصف القوس والأبراج المستدقة عناصر أرادها رايت أن تكون لبغداد ولكن نفذت في مجمع المرينا في سانت روفائيل في كاليفورنيا.

كان الرحال حتما قد تأثر أو شاهد تصاميم جامعة بغداد، في عام1980 أعادالرحال الكرّه وقدم التصميم كمقترح لنصب الجندي المجهول بعد أن غيّرالتصميم، فالصحن الأزرق أصبح قرصا معدنيا يمثل قبعة الجندي والبرج أصبح ذات البرج الأسطواني الذي صممه رايت لمبنى البريد بشكل (يو) أريد به أن يرمز الى البوق.

طلبت أمانة بغداد من الرحال إضافة مبنى متحف وأوكل إلى المعماري الإيطالي المشهوردي أوليفيواعتماد النصب وإضافة المبنى، فأجلس النصب فوق مبنى المتحف الذي شبهه دي أوليفيوبالصقر، ولف حول البوق كتلة زجاجية لتشكل راية العلم العراقي، لقد أضاع هذا التمثيل المباشر القيمة الكتلية للتصميم الأول الذي كان قد قدم في عام 1977 والذي كان نصا مأخوذ من المارينا.