الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
محمود صبري الفنان
الأربعاء 31-12-1969
 
فيصل لعيبي - لندن
ليس سهلا الكتابة عن قامة بمستوى قامة محمود صبري، خاصة عند نقص الوثائق وقلة المعلومات وصمت فناننا الكبير وتواضعة وزهده وابتعاده عن المهرجانات والأضواء المغرية لغيره،
مع تجاهل الجهات الثقافية المسؤولة وغمطها لحقوق هذا المبدع الخلاق و الجهات اللاحكومية و التي تدعي الأهتمام الكاذب بالثقافة والمثقفين والأرث المعرفي والفني من مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسيةالديمقراطية واليسارية منها بالذات ودور النشر والمجلات الثقافية وغيرها، وقد فاتحت قبل سنوات مجلة الثقافة الجديدة ورئيس تحريرها رائد فهمي وعدداً ممن وضعوا اسماءهم على الغلاف الداخلي للمجلة على اساس هيئة تحرير، في التفكير بتكريم هذا الرائد واحد عمالقة الثقافة العراقية الحديثة الذي مايزال على قيد الحياة واصدار كراس او مجلد لأعماله وكتاباته المختلفة، لكنهم جميعا قد اتفقوا على اعطائي الأذن الطرشة. ولم تفعل وزارة الثقافة شيئا ايضا لافي عهد وزيرها السابق ولا في عهد وزيرها اللاحق ولااظن ان هناك من يفكر جديا بمثل هذا الأمر ، مع الأسف. لم تجمعني بالفنان الكبير محمود صبري مناسبة ما داخل العراق إذ انه كان قد غادره الى الخارج قبل وصولي الى بغداد قادما من البصرة للدراسة في معهد الفنون الجميلة بصحبة صديق الحياة والعمر الفنان القدير صلاح جياد، بعد ان بذل اساتذتنا في البصرة ما في وسعهم لإنضاجنا وتهيئتنا كرسامين للدخول الى المعهد. كل ما اعرفه عن استاذنا الكبير محمود لايتعدى ماكنت اشاهده من طوابع بريدية ملصقة على اغلفة الرسائل التي تصل الى البيت حيث كان اخي الأكبر غازي من عشاق ركن التعارف في الصحف العراقية والأذاعات العربية وكان محمود صبري قد قام بتصميمها بعد ثورة 14 تموز عام 1958، حيث العيون الواسعة كالعيون السومرية والأجساد القوية ولكن المنهكة التي ابدعتها انامله وعاطفته وابدعها فكرة. في بغداد شاهدت صورة مطبوعة لعمله الشهير : ثورة الجزائر، وكذلك بعض الصور لأعماله الأخرى والتي سيظهر تأثيرها علي بعد فترة واضحاً. ولد الفنان محمود صبري عام 1927 ببغداد، اي بعد عام من ميلاد رواد الحداثة في الشعر العربي المعاصر (نازك الملائكة و السياب والحيدري والبياتي)، واكمل الدراسة الثانوية فيها ثم سافر الى بريطانيا واتم فيها دراسته للعلوم السياسية عام 1949 وبعد عودته الى العراق انضم الى جماعة الرواد التي أسسها الفنان الكبير فائق حسن عام 1950. لقد ساهم محمود في وضع اللبنات الأولى للفن العراقي الحديث وعمق المفاهيم التي كانت سائدة قبل مجيئه من بريطانيا، ولما كان محمود من حملة الفكر التقدمي اليساري فقد ادخل في الحركة الفنية العراقية مفاهيم الجمال الماركسية واكد في اعماله موقفه المساند للطبقات الكادحة صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير واثار انتباه الفنانين الى المحتوى الإجتماعي للفن ودوره الموجه والمغير والطليعي في حياة المجتمعات على مر العصور، كما ان انشغاله في الرسم لم يمنعه من تعميق رؤيته الثورية وعلاقة الفن بالحياة العامة للناس، لهذا نراه في تلك الفترة يؤكد على مايعانيه المهمشين في المجتمع خاصة فقراء الفلاحين الذين سحقتهم المدينة التي كانوا يتصورونها ملاذاً آمناً لهم، ونرى كذلك جموع العمال والكادحين يحتلون مساحات واسعة من اعماله آنذاك، وتوغل في الأزقة والشوارع الخلفية للمدينة وكشف لنا عن بيوت الهوى وعذابات بناتها اللواتي قذفت بهن الأقدار ولفظتهن التقاليد والعادات والأعراف السائدة. كان محمود فنانا مفكرا متميزا في نظرته لدور الفن في الوقت الذي كان معظم فنانو تلك الفترة منشغلين بما هو شائع وعادي، مركزين جهودهم على مايمكن ان يلبي طلبات الزبائن، مع بعض الأستثناءات بطبيعة الحال، وكانت المشكلة الإجتماعية هي الشاغل الأهم لفن محمود والناس البسطاء ابطاله المفضلون. كانت الألوان في تلك الفترة قليلة ومقتصدة ولاتتعدى الأسود والأزرق الغامق مع البني والوجوه الحزينة المصفرة والغاضبة مع خطوط قوية حادة تعكس مزاج الفنان والفاقة التي يتصف بها البشر في مناطق خلف السدة وبيوت القصدير والقصب المائلة الى السقوط. لكن فترة الخمسينيات على ما يبدو في معظم البلدان العربية كانت فترة مزدهرة وربما ذهبية إذا ما قيست بأيامنا القاحلة والدموية التي نعيشها الآن، هكذا كان العراق في تلك السنين خلية نحل من العمل الأبداعي والفني الخلاق، صحافة، مستقلة احزاب، سوق حر وحرية نسبية لاتقاس بما نحن عليه حاليا. لقد قسم المعماري الكبير الدكتور رفعت الجادرجي الفن العراقي الى مرحلتين، المرحلة الأولى اسماها ماقبل محمود صبري والمرحلة الثانية هي مرحلة محمود صبري او مجيء محمود صبري، حيث تغيرت افكار الرسام العراقي بمجيء هذا الرائد. فإذا كنا ندين لفائق حسن بما قدمه للوحة العراقية من تكنيك حديث ولجواد بما قام به من ربط الحداثة بالتراث العراقي القديم فإن محمود صبري قد دفع بالموضوع الفني العراقي الى عمق المشهد الإجتماعي الدامي. في الخمسينيات ظهرت حركة الأعمار الشامل في العراق وخطت الثقافة خطواتها المهمة : المسرح، السينما، الفن التشكيلي، الموسيقى والغناء، الشعر والرواية، الفكر والسياسة وكانت ملامح المجتمع المدني الحديث تنمو بثقة واصرار. بعد ثورة 14 تموز عام 1958، انغمر الفنان في العمل من اجل انجاح هذه التجربة ودخل معترك الفعل الثوري بحماس تشده تلك الافكار التي ناضل من اجلها وعمل في تطبيقها فنيا على اللوحة. وظهرت الوانه الحارة والمشتعلة وازداد بريقها وضوؤها وبرز الأحمر والبرتقالي والأصفر والوردي والأخضر واضحت خطوطه اكثر حيوية وحركة وإندفعا وتعبيرا عن الحياة الجديدة التي بدأ العراقيون مزاولتها، وخلال هذه الفترة صمم العديد من الشعارات والرموز للنقابات والإتحادات المهنية والنقابية والجماهيرية وماتزال هذه الشعارات رموزا باقية لتلك المنظمات التي لعبت دورا مهماً في تشكل مجتمع المدينة والعصر الحديث في العراق. ثم كلفته حكومة الثورة بإقامة جدارية تحكي نضال الشعب العراقي خلال مسيرته الصعبة والدامية، فسار الى موسكو لغرض تنفيذ العمل،وكان من المؤمل ان تقام خلف نصب الحرية للفنان الخالد جواد سليم ومايزال مكان الجدارية خاليا حتى كتابة هذه المادة، لكن إنقلاب 8 شباط عام 63 قد غير كل شيء وانتهت ايام التفاؤل والأمل، وهذي اللوحة محفوظة الآن لدى الفنان وقد شاهدتها بعيني قبل سنين عديدة بعد ان امتدت لها يد الزمن واهمال الجهات الحكومية وتحولت الى شاهد على العقوق والتجاهل الذي عانى منه فناننا الكبير. ولما كان محمود من ضحايا انقلاب البعث الأول ومن معارضيه ايضا فقد كتب مادة فكرية وسياسية ضد الفاشية وساهم كفنان في فضحها بالرسم والكتابة، وماتزال اعماله التي رسمها عن شهداء الحزب الشيوعي وقادته بعد انقلاب شباط الأسود معلما فنيا ووثيقة ادانة وشهادة مبكرة، لايمكن تجاهلها عند الحديث عن الفن الثوري والثقافة الرافضة للقمع والدكتاتورية في عراق ما بعد ثورة 14 تموز. انشغل فناننا محمود بعد هذه الحقبة الدموية بأعمال ذات تقنية مختلفة نوعا ما وازدادت الوانه حرارة واخد يستخدم اداة حادة وعريضة لملء المساحات وأستغنى عن الفرشاة و اخذ يحور بعض الاعمال الفنية المعروفة لفنانين اوربيين ويعطيها نكهته الخاصة كما هو الحال مع لوحة الصلب لجيروم بوش الهولندي المعنونة بـ: صعود الخطايا، او استلهامه لنحت بارز من الفن الآشوري للتعبير عن واقع جديد حيث السلطة تسحق البشر وتدوس خيولها الناس، واستمر الهم الأجتماعي غالبا على اعمال هذا الفنان اضافة لكتاباته النظرية في الفلسفة المادية بالذات والتي كان آخرها حسب علمي ما نشرته مجلة الطريق اللبنانية قبل سنوات عن علاقة المادة بالوعي وطبيعة التحول او التبادل في ادوارهما في الصيرورة الأجتماعية العامة. في 26/10/1971 اقام الفنان محمود صبري في مدينة براغ معرضه الأول عن واقعية الكم وفي 3 آذار عام 1972 القى الفنان محاضرة في براغ عن الفن الجديد الذي يليق بالعصر الجديد، أسماها : " واقعية الكم فن جديد لعصر جديد " امام حشد من طلبة الدراسات العليا من العراقيين والعرب، و في عام 1973 القى الفنان بحثه هذا في جمعية الفنانين العراقيين ببغداد فأثار جدلا واسعا بين الفنانين وقد انقسم الحضور بين مؤيد ومعارض لما ابداه الفنان محمود من وجهات نظر مغايرة لما هو سائد ومستقر في اذهان الفنانين وطلبة الفن وكتاب النقد الفني في الصحافة العراقية – مع الأسف لم نر تأثير هذه الفكار وما اثارته من جدل في الصحف العربية او المجلات التي تهتم بالثقافة والفنون عامة -. كانت خلاصة هذه الفكرة او البحث ما يلي : 1 – ان العالم عبارة عن عملية معقدة مستمرة من الصيرورات اللانهائية (complex process) وليس عبارة عن موجودات جاهزة و ثابتة ومكتملة ونهائية منذ الأزل. ان الكتلة والطاقة تتبادلان المواقع وتتحولان، وهذا ايضا مناقض للفهم السابق للمادة التي تعتبر كتلة بالدرجة الأولى. وقد انتقل الفنان في هذه الفرضية من الشكل الظاهري للأشياء و العين المجردة للفنان الى المستوى الذري الأعمق واستخدام الألوان التي تميز الذرات نفسها، وقد وصف الفنان الوان الذرات واشعتها مثل الطابوق بالنسبة للمعماري او البناء، حيث يمكننا بناء العمل الفني اعتمادا عليها. واختزال العالم الى طاقات مشعة، ولما كانت العناصر الطبيعية الذرية هي 93 و لكل عنصر مجموعة من الألوان فقد حدد الفنان لكل ذرة للسهولة سبعة خطوط لونية وبهذا خلق لنا قاموسا لونيا او الف باء اللون حسب وجهة النظر التي يتبناها شخصيا. وهو يعتقد ان هذه النظرة ستقلل الفجوة بين الفنان والعالم وبين النخبة والمجتمع ويتحول الفن من نشاط ذاتي الى نشاط موضوعي وإجتماعي. لكن مشكلة واقعية الكم هي انها قد تناست المشاعر والأحاسيس البشرية وكذلك الرؤى والأفكار التي لايمكن ترجمتها على اساس ذري مادي خالص. اين الحزن والفرح والحب او الحقد ؟ اين موقف الفنان من الظلم والأستبداد ؟. والفنان اصلا لايمارس الفن إلا لأسباب التي تتعلق بمشاكله وعلاقاته مع الآخرين وموقفه من الحياة والطبيعة والكون والمصير الغامض للبشرية. مايزال محمود صبري رمزا كبيرا لعراقنا الحديث ورائدا بارزا للفكر الثوري والأنساني النبيل ومربيا لنا على النضال على مختلف الأصعدة وبمختلف الأساليب لتغيير واقع بلادنا وواقع ثقافتنا وتطوير ابداعنا نحو مواقع متقدمة واصيلة وفاعلة. له العمر المديد والنشاط المثابر والأمتنان والشكر على ماقدمه لنا ومايزال من ثروة روحية وفكرية لاتقدر بثمن مع الأعتذار له. لندن في 12/11/2005 ملاحظة : لقد اثارتني حمية الدكتور الجليل والشاعر المرهف الأستاذ عدنان الظاهر ومقالته عن الفنان الكبير محمود صبري، فألف شكر له و تحية لأمثاله من ابناء العراق النجباء.

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
كفة رئيس البرلمان تنحرف داخل الإطار لصالح مرشح المالكي محمود المشهداني
بيئة كوردستان: انبعاثات "النشاطات البشرية" أكبر عوامل التغير المناخي
"ليس هناك خطأ".. منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة
أخطر مهربي البشر.. سلطات كردستان تعلن اعتقال "العقرب"
تعليق أمريكي على تخريب "مساعدات غزة"
مصر تلغي اجتماعاً مع مسؤولين عسكريين اسرائيليين
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
المعتقلون الفلسطينيون.. أجساد عارية وعيون معصوبة وقطع غيار بشرية
إضاءة ومساهمة في مؤتمر نسائي هام بالسليمانية
تصويت بغالبية كبرى في الجمعية العامة تأييدا لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة
صراع الممرات: طريق التنمية من منظور تاريخي وباب التعاون بين بغداد وانقرة
"النجباء" توعدت بالانتقام وفصائل عراقية تقصف إيلات
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة