لقد أشرنا فيما سبق إلي انشغال الجواهري بما كان يدور في العالم العربي من تطورات سياسية واجتماعية شبيهة بما يجري في العراق، لأن الشعوب العربية حينذاك كانت تسعي لتحقيق الاستقلال التام، وترسيخ قيم الحرية والعدالة، والعيش الكريم لكافة المواطنين، وليس للطبقات الحاكمة ومن يدور في فلكها فقط.وهكذا تجد في شعره أصداء قوية لقضية فلسطين، ولنضال الشعوب العربية في سوريا ومصر والجزائر وغيرها، ضد الاحتلال والهيمنة الاستعمارية.ولكن القضية الفلسطينية التي واكبها الجواهري في شعره منذ الثلاثينيات بقيت هي القضية الأم في شعره السياسي القومي، لأن المخطط الذي وضع لها منذ وعد بلفور كان يقضي بسلخها عن الوطن العربي، وإحلال كيان دخيل محلها يقوم بتشريد شعبها وارتكاب المجازر الفظيعة في حقه لينزح عن وطنه، وهو ما حصل بالفعل. وكان الشاعر قد زار فلسطين عام 1945 فاحتفلت به الأوساط الأدبية والثقافية هناك، وأقيم له حفل تكريمي في مدينة يافا فألقي فيه قصيدة (يافا الجميلة) ومطلعها:بيافا يومَ حطَّّ بها الركابُتمطّر عارضٌ ودجا سحابُ
ولكن بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ قامت الحرب عام 1948، ودخلت الجيوش العربية فلسطين، واشتد رحي المعارك بينها وبين العصابات الصهيونية، فكتب قصيدته (فلسطين) التي يحث فيها المجاهدين علي نجدة فلسطين وشعبها فيقول:حماةَ الدار لم تتركْ لشعريفلسطينٌ سوى كلمٍ مُعادِبكيت مصابها يفعَاً ووافتْنهايتها وخمسونٌ عداديقدحتُ لها رويّاً من زِناديوصٌغتُ لها رويّاً من فؤادي(11)
ويضيق بنا المقام لو تتبعنا شعر الجواهري في الحرب العالمية الثانية، ونضال الشعب المصري وصموده ضد العدوان الثلاثي، وكذلك نضال سوريا للتخلص من الاحتلال الفرنسي، وثورة الجزائر وغير ذلك من نضال الشعوب الحرة في العالم، الأمر الذي يحتاج إلي دراسة منفصلة نؤجلها إلي وقت آخر.
ولكن النتيجة التي نخلص إليها أن شعر الجواهري كان سجلاً حياً وكتاباً مفتوحا نقرأ بين طياته تاريخ العراق الحديث والمنطقة العربية، وحركة الشعوب في مسيرتها نحو العدل والحرية. ولا نعني به التاريخ الجامد الذي يُعني بتسجيل الوقائع وضبطها، وإنما التاريخ الحي الذي يكتبه الشاعر بدمه ودموعه، بغضبه وانفعالاته، بثورته وسكونه. فشتان بين كاتب يؤرخ لحروب سيف الدولة مع الروم، وبين شاعر كالمتنبي وصف تلك المعارك وخاض غمارها وخلدها في شعره... هذا التاريخ الحي هو الذي خلّد قصائد الجواهري وكأنها قيلت اليوم، علي الرغم من مضي عشرات السنين علي نظمها، لاسيما وإن المشكلات التي عالجها الشاعر مازالت علي حالها... لم تُحل ولم تتغير!
صحيفة الزمان (11/9/2007م)
هوامش(1) الشيخ جعفر آل محبوبه: ماضي النجف وحاضرها، ج1، ص28، ط2، مط الآداب، النجف، العراق، 1958.(2) محمد مهدي الجواهري: ديوان الجواهري، ج1، ص99 وما بعدها، نشرة وزارة الإعلام، بغداد، 1973.(3) المصدر نفسه، ص147.(4) المصدر نفسه، ص271.(5) المصدر نفسه، ج5، ص366.(6) د. إبراهيم العاتي، اللقاء الأخير مع مصطفي جمال الدين، كتاب (سيد النخيل المقفي)، ص285، إصدار المكتبة الأدبية المختصة، قم، 1418هـ.(7) ديوان الجواهري، ج3، ص259 وما بعدها.(8) م. ن، ص 269.(9) م. ن، ص288.(10) م. ن، ص294.(11) م. ن، ص321.