الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
نــظــرتــان
الأربعاء 31-12-1969
 
 خالد القشطيني
التعليم مهمة لازمتني مدى حياتي و منذ طفولتي، فقد قضى والدي رحمه الله كل حياته معلما و انفق اياما طويلة في تعليمي وقدر لي ان ابدأ حياتي المهنية في التعليم ايضا وها انا الآن اعيش مع ولدي اللذين يزاولان هذه المهنة كذلك في بريطانيا.

يظهر ان هناك جينات تعليم تدب في عروقنا. فحتى بعد انتقالي لمهمة الكتابة و الصحافة فإن جل ما اكتبه يتسم بلهجة تعلمية.
انني اعرف تماما شجون هذه المهنة و معاناتها. فمعاناة المعلم، و بصورة خاصة تدني مستواه الاقتصادي و انخفاض اجوره ظاهرة عالمية طالما جرت المعلمين الى اليسار و الى التعلق بالأشتراكية و المباديء الثورية، وهو ما حصل لي بالضبط. وهذا خطر يهدد الأنظمة القائمة فلا سبيل لمنع المعلم من غسل دماغ تلامذته بأفكاره. و كنت واحدا منهم وقعت بتأثير معلمي الاستاذ جاسم الرجب و الاستاذ صلاح التهامي, و كان كلاهما راسخين في الافكار الماركسية. لا خطر يهدد النظام القائم اكثر من خطر المتعلم العالم و بنفس الوقت المحروم المعدم. قلما يدرك الناس مدى دور المعلمين في اذكاء الثورات التي اجتاحت العالم منذ القرن التاسع عشر.
لا عجب ان اعتقلت السلطات العراقية استاذي جاسم محمد الرجب بعد ان استلمت تقريرا عن نشاطه الهدام. حدثت مناقشة حادة في الصف عندما اكد تلميذ ان الشيخ مصطفى البرزاني يكتب تميمة تحمي حاملها من رصاص الشرطة. استسخف الأستاذ هذا الأدعاء كخرافة. و انقسم الطلبة بين مؤيد و مكذب. ثم تحمس التلميذ فقال استطيع ان اثبت ذلك. سآتي بالتميمة مع مسدس و اضع التميمة على ذراعي و انتم اطلقوا الرصاص علي. تجربة رهيبة‍! بالطبع لم يشأ المعلم ان يتحمل مسؤولية موت ابن الناس ، ولو لأغراض التجربة العلمية. و لكنه توصل الى حل وسط. جاؤا بدجاجة و وضعوا التميمة على رقبتها ثم خرج كل الطلاب مع الدجاجة و المسدس الى بستان مجاور. و اجروا التجربة هناك فمزقت الرصاصة الدجاجة المسكينة اربا اربا مع ما كان عليها من التميمة و الأدعية. و اثبت الأستاذ جاسم للطلبة تفوق العقل على النقل، و العلم على الخرافات. و لكن وكلاء المخابرات سارعوا الى ارسال تقرير الى مكتب الأمن يفيد بأن جاسم محمد الرجب بدأ بتدريب الطلبة على استعمال الأسلحة النارية استعدادا لإعلان الثورة المسلحة و إسقاط النظام القائم. فاعتقلوه!
و لكن معلمي هذا استطاع في رأيي ان يبدد الاعتقاد بالخرافات ويغرس الروح العلمية في طلبته بالتجربة والملاحظة العملية.
هناك ازدواجية في نظرتنا نحو المعلم. فمن ناحية نكن له الاحترام و التقدير الذي عبر عنه احمد شوقي خير تعبير في قوله:
قم للمعلم افضل التبجيلا
كاد المعلم ان يكون رسولا
و لكننا من الناحية الاخرى من ادبنا العربي نقرأ ما قاله الجاحظ عن سخف المعلمين و قصر عقلهم حتى عنّ له ان يؤلف كتابا كاملا عن حماقات المعلمين. و ما احسب القاريء الكريم في حاجة لسرد بعض ما قاله فيهم و عنهم. وهذه فكرة عامة بيننا. و نحن في العراق نطلق على المعلم صفة " الصقيع" ، بمعنى الصغير العقل. و نتحدث فنقول من اين يتعلم المعلمون العقل اذا كانوا يقضون نهارهم مع الصبيان و ليلهم مع النسوان . و كلما دخلت والدتي رحمها الله في مشادة مع والدي – و ما اكثر ما تشاددوا- عيرته بالفشل و انه لم يستطع ان يرتقي في عمله و بقي معلما.
لم التق في حياتي بمعلم لم يحلم بالخروج من عمله هذا الى اعمال اكثر عطاء و رفاها و احتراما. المعلم هو الرجل الفاشل عندنا مع الأسف. سمعت عن صبي سقط في الامتحان وذهب والده يتوسط و يتوسل بالمدير ان ينجحه. قال له المدير ، كيف انجحه و عنده كل هذه الدرجات الواطئة، انه لا مقدرة له في أي شيء؟ اجابه الوالد ، " انت بس نجحه و نحن نتوسط له يصير معلم."
وهذه ازدواجية غريبة. فبينما نحترم المعلم كرجل متعلم يقوم بمهمة تربوية اساسية ، ننظر اليه كرجل فاشل و ساذج ومحدود العقل. وهذه نظرة محصورة فينا. فالغربيون ، وعلى الخصوص الانغلوسكسون ، يجلون المعلم إجلالا كبيرا و من المعتاد للشركات و البنوك و المؤسسات العامة ان تولي المعلم ثقتها و تتعامل معه بإحترام و تقدير و دعم.
هذه ظاهرة غريبة تكشف عن مدى تأخرنا و فشلنا و سوء تقديرنا كعرب. فنحن ننظر هذه النظرة السيئة للمعلم و للممرضات في المستشفيات و لكل الحرفيين و كل من يقوم بخدمة اساسية في المجتمع في حين ان الانغلوسكسون يولون اكبر الاحترام لهذه الفئات ولا اعز لديهم من الرجل المعلم و المرأة الممرضة في المستشفى.
حاولت ان اقارن بين ما نرويه من نكات و تقليعات قذرة عن المعلمين عندنا، و مما تأبى نفسي عن ذكره هنا، و ما يقوله الأنغلوسكسون عنهم. لم اجد في الانكليزية أي شيء مقذع او يسخر من المعلمين. النكتة الوحيدة التي سمعتها تنم في الواقع عن احترام الناس لهم. ساقوا امرأة في الولايات المتحدة الى المحكمة لتجاوزها سرعة المرور بسيارتها. سألها القاضي عن مهنتها. فأجابته بأنها معلمة. فقال لها، حسنا حكمت عليك المحكمة بأن تكتبي مائة مرة في دفترك : " متأسفة. و لن اتجاوز السرعة المحدودة بعد اليوم!"
السخرية الوحيدة التي سمعتها منهم كانت تقول: كم معلما تحتاج لتبديل المصباح الكهربائي؟
الجواب: ولا واحد. لأنهم سيقررون تأجيل الواجب الى الأسبوع القادم!
بيد انني قرأت منهم هذه التقليعة التي تعبر في الواقع عن معاناة الحياة بين المعلمين . يقول القائل، كيف تعرف اذا كان الرجل مؤهلا لمهنة التعليم و ماذا تنتظر منه: يتطلب الجواب هذه الأركان السبعة :
اولا: ان يكون مستعدا للتنازل عن سعادته وحياته مرة في كل سنة من اول سبتمبر الى نهاية يونيو.
ثانيا: ان يكون جاهزا لأن يصفع وجه أي رجل يقول له ما أحلى حياة المعلمين بكل هذه العطلة الطويلة التي يتمتعون بها في كل صيف.
ثالثا : ان يبصق في وجه أي صبي يقول انه يحلم عندما يكبر في ان يشتغل معلما في المدارس.
رابعا: ان تعرف مائة سبب لتبرير التأخر عن الحضورللدرس.
خامسا: ان تجد نفسك تشير لزعماء البلاد و قادتها بألاولاد.
سادسا: ان الا تشعر بالرغبة لإنجاب أي اطفال لأن مجرد التفكير بإسم أي طفل يرفع ضغط دمك عدة درجات.
سابعا: عندما تكون في الخارج و تصادف اولاد الناس يسيئون السلوك في الشارع فتشعر ان واجبك يقتضي منك تأديبهم.
يشكو المعلمون في الغرب بصورة خاصة في هذه الأيام من اختلال النظام والتسيب في المدارس بسبب القيود التي فرضت عليهم و منعتهم من ضرب التلميذ او إهانته او التعرض له بأي معاقبة جذرية. بيد ان المدارس الكاثوليكية ما زالت تحتفظ بكثير من سنن الضبط و الربط. عانى احد الآباء من تسيب ابنه و اهماله للدروس. لم يجد بدا في الأخير من ارساله الى مدرسة كاثوليكية حيث وضعوا في الساحة صليبا خشبيا ضخما و عليه هيئة المسيح المصلوب. لم تمض غير بضعة ايام حتى لاحظ الوالد روح الاجتهاد و الحرص على الواجبات تتملك ابنه بجد. فسأله عن هذا التحول. فأجابه الولد، في هذه المدرسة يصلبون المقصرين عن الدرس و يعلقونهم على خشبة. رأيت بعيني واحدا منهم صلبوه هكذا!
لم يفعلوا ذلك في مدارسنا ولكن معلمنا في المدرسة الابتدائية اعتاد في سورة غضبه على اهانة التلميذ الوقح و تأديبه بقوله : " يا ابن اليهودي!" او " يا ابن النصراني." و ذلك حتى عندما يكون في الصف تلميذ يهودي او مسيحي. لا عجب ان نرى كل هذا الاقتتال الطائفي الجاري في العراق الآن. فهذا هو التعليم الذي تلقيناه في طفولتنا. و الظاهر ان المعلم ينفس عن يأسه من حياته و معاناته بتفريغ غضبه و حنقه على التلاميذ الجالسين امامه، و كأنهم هم المسؤولون عن ضيقه، تماما مثلما ينفس البعض عن ضيقهم و معاناتهم بضرب زوجاتهم في البيت.

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
من العراق إلى غزة.. طبيب أمريكي يطلق نداءً من خان يونس: أوقفوا الحرب
في اربعينية كوكب 12 ايار/مايس هذا النص
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
كفة رئيس البرلمان تنحرف داخل الإطار لصالح مرشح المالكي محمود المشهداني
بيئة كوردستان: انبعاثات "النشاطات البشرية" أكبر عوامل التغير المناخي
"ليس هناك خطأ".. منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة
أخطر مهربي البشر.. سلطات كردستان تعلن اعتقال "العقرب"
تعليق أمريكي على تخريب "مساعدات غزة"
مصر تلغي اجتماعاً مع مسؤولين عسكريين اسرائيليين
تهنئة من الاتحاد الديمقراطي العراقي
المعتقلون الفلسطينيون.. أجساد عارية وعيون معصوبة وقطع غيار بشرية
إضاءة ومساهمة في مؤتمر نسائي هام بالسليمانية
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة