باشرت في الاول من اب (اغسطس) 2003 المذيعة لقاء عبدالرزاق ( خريجة كلية الاداب ) عملها في تلفزيون شبكة الاعلام العراقي (العراقية)، الذي اطلق بثه التجريبي الاول في الثالث عشر من ايار (مايو) 2003 من استديو متواضع في الطابق الثالث بقصر المؤتمرات.
كانت تأتي الى الدوام في صباحات بغداد الجميلة. تجلس في غرفة صغيرة خصصت للمذيعات والمذيعين، الذين لم يتجاوز عددهم آنذاك الستة. تبدأ بالتهيؤ للعمل حسب المنهاج اليومي، وبكفاءة كانت تحسد عليها، سواء في تقديمها لموجز الانباء او في قرأتها للنشرة المسائية المفصلة التي كان موعدها في الثامنة مساء. النشرة التي لم تكن لقاء تفضل قراءتها لكي لا تبقى خارج منزلها الى ذلك الوقت المتأخر في بغداد التي كان يلفها الخوف بعد ان يغزوها الظلام، حيث ساعات منع التجوال تبدأ في الحادية عشرة مساء. اضافة الى كونها مسؤولة عن عائلة وام لطفل صغير، ومخافة ان يقع لها اي مكروه وهي في طريقها الى منزلها حيث تختفي الطرقات من المارة، وتكتظ بالسيارات المسرعة في جميع الاتجاهات.
كانت لقاء تطلب بخجل وتردد، ان يسمح لها بقرأة الموجز وتقديم تقريرالصحافة اليومية واي شيئ تكلف به، على ان تنتهي من دوامها قبل حلول الظلام، لتغادر الى منزلها الواقع في اطراف منطقة الدورة.
كانت مذيعة متألقة حقا كسبت ود زملائها وزميلاتها في التلفزيون وخاصة طاقم الاخبار، وهي كانت تتقن فن التعامل مع الكاميرا وتقنيات الاستديو. لم يكن راتبها الضئيل ولا امكانيات العمل المتواضعة التي كانت متوفرة حينذاك ولا اجواء الاستديو الخانقة، بسبب شدة الحرارة وسوء التهوية اللازمة، يجعلها تتذمر او ينعكس ذلك على ملامح وجهها الصبوح، فقد كانت تتعامل مع الخبر او التقرير بروح شفافة متفاعلة مع الحدث. وهي هادئة، متزنة ومتواضعة، بعيدة عن التبرج وتبتعد عن استخدام المساحيق الخاصة بالتلفزة قدر الامكان.
في احد الايام دخلت الى مكتبي، حيث كنت المدير العام للقناة، زميلتها المذيعة نادية صابر لتخبرني بتعرض منزل لقاء الى السرقة. في الحال ذهبت الى غرفة المذيعين، علني اتحدث اليها واقدم لها مساعدتي في ذلك الوقت العصيب. فوجدتها على عادتها هادئة ووقورة عدا مسحة حزن عميق يلف وجهها المبتسم دوما. حاولت مع زملائها وزميلاتها، اقناعها بأن تتقبل تعويضا من الشركة الامريكية التي كانت تشرف على شبكة الاعلام العراقي ( الاذاعة والتلفزيون وجريدة الصباح) عما خسرته في حادث السرقة، خاصة وان راتبها الشهري لم يتجاوز المائة والعشرين دولارا. الا انها كانت كريمة النفس ابية رفضت العرض، معتبرة ان ماسرق من منزلها ليس بخسارة تذكر، مضيفة "اللي يموت يخسر".
فهل خسرت لقاء لوحدها حين باغتها المجرمون القتلة في كمين نصبوه لها في وضح النهار؟ أم ان عائلتها وزميلاتها وزملاءها الذين عملوا معها وكذا العراق، هم الذين خسروا ايضا انسانة طيبة وصوتا دافئا وطاقة شابة مليئة بالحيوية والابداع والعطاء واما حنونا وزميلة رائعة؟
لم يكتف القتلة ان اجهزوا على زوجها قبل اربعة شهور من الاجهاز عليها في بغداد، لمجرد انه كان يعمل مترجما لدى شركة تيتان الاجنبية؟ ولم يكتف هؤلاء القتلة أن تترمل لقاء وتتحمل لوحدها مسؤلية اعالة ولدها الصغيرالبالغ ست سنوات، وطفلتها الرضيعة، بل أصروا على قتلها وهي في عز الشباب والعطاء.
في تلك الايام، كان المجرمون، ينحرون الرقاب ويمثلون بالجثث ويبقرون بطون النساء ويقطعون الرؤوس ويرمونها في قارعة الطرق. قتلت لقاء، لكنها ستبقى حية في ذاكرة الناس الذين عرفوها. وستبقى صورتها الجميلة تحوم حول القتلة لتؤرقهم في مضاجعهم وتدفع بهم الى المستنقع الذي يستحقونه.