لا أحبُّ المراثي والمقالات التأبينية. كلّما سمعتُ بخبر رحيل شخصية ذات مثابة عالية في أيّ نشاط معرفي أو إبداعي كان هذا الرحيل إيذاناً بمعاودة التفكّر المديد في هذه الثنائية الغريبة للحياة: يرحلُ المرء بعد رحلة حياة شاقة قضاها في إكتساب معرفة وألوان شتى من الخبرات التي لا تفتأ تتعاظم يوماً بعد آخر. ما الذي ستُضيفه المرثيةُ؟ هل ستعدّلُ بعض حتمية هذه الثنائية الشرطية؟ لن تفعل بالتأكيد. المراثي والمقالات التأبينية أراها مساهمة -غير قصدية ربّما- في تأكيد سطوة الموت والإذعان لحقيقة الرحيل الأبدي والإيقان بأنّنا إنّما نقدّمُ للراحل جزءاً من دَيْن إفتراضي علينا تأخّرنا فيه وهو حيٌّ بعدُ، ولم يكن رحيله سوى تذكرة لنا بوجوب تسديد ذلك الدّيْن. أظنُّ لو كانت للذكاء الإصطناعي مِنْ حسنة أو فضيلة مشهودة فستكون مقدرتَهُ المُبشّرَ بها في حفظه للذاكرة الرقمية كخطوة أولى ضرورية نحو تحقيق (الخلود الرقمي Digital Immortality). الأفضلُ من تدبيج العزاءات والمراثي والتأبينات هو الإستمرار بالكتابة عن الراحل كما كنّا نفعل عندما كان حياً. أظنّنا بهذا الشاكلة نُبقي ذكره حياً ونكسرُ شوكة الموت المتجبّرة.
ماريو فارغاس يوسا الذي غادَرَنا مؤخّراً سيكون ميدان إختباري الأوّل. سأكتب عن مواريثه (أو بعض مواريثه) المسكوت عنها أو غير الشائعة على أوسع النطاقات التي يستحقّها. معروفٌ عنهُ أنّه روائي حاز جائزة نوبل عام 2010، فضلاً عن إهتماماته السياسية. سأقول ابتداءً أنّني أعتقدُ بأنّ كثيرين من روائيي أمريكا اللاتينية يتقدّمون على يوسا في الصنعة الروائية، ولو أردتُ تعداد بعض أسماءٍ من هؤلاء لقلتُ: فوينتس وكورتاثار وبارامو وماركيز. يتداخلُ السياسي مع الروائي في عالم يوسا الروائي تداخلاً يبدو قسرياً في معظم الأحيان، ولعلّ هذا ما يفسّرُ لنا إنغماسه في السياسة وترشحّه للرئاسة في سابقة نادرة تكرّرت مرّة أو مرّتين قبله. أظنُّ أنّ يوسا إنتبه لهذه التفصيلة فعمل في رواياته الأخيرة على فصل السياسي عن التخييلي في أعماله الروائية.
فضائلُ يوسا ومحاسِنُهُ وإبداعاته الأعظم تتجلّى خارج نطاق الرواية والسياسة، وتتجلى على وجه التخصيص في ميادين ثلاثة. الميدان الأوّل هو كتاباته الفكرية سواءٌ كانت في حقل التنظير الروائي أو الإنشغالات الفكرية غير الروائية. أبدع يوسا كثيراً في مثل هذه الكتابات، وأظنُّ أنّ قراءة كتب يوسا: (الكاتبُ وعالمه) و(رسائل إلى روائي شاب) تقدّمُ مصاديق مؤكّدة لما أرى. كذلك تفعل حوارات يوسا. الإكتفاءُ بروايات يوسا من غير إطلالة جادّة على حواراته وكتبه غير الروائية إنّما هو تبخيسٌ لإستحقاق الرجل وإبداعه وتفويتٌ لفرصة الإطلاع على روائي لا يكتفي بكتابة الروايات. للأسف تميلُ دور النشر إلى تلاقف روايات حاملي جوائز نوبل الأدبية وتسرعُ في ترجمتها؛ لكنّها في المقابل تتناسى إنتاجاتهم غير الروائية. أشيرُ في هذا الشأن بالتحديد إلى كتاب رائع كتبه يوسا قبل أكثر من عقد بقليل واختار له عنوان (نداءُ القبيلة The Call of the Tribe) وهو ممّا لم يُتَرجمْ حتى اليوم، ولا أظنني سأراه مترجماً في قابل الأيّام. هذا الكتاب رائع، ويمثلُ سابقة لدى الروائيين عندما يكتبُ روائي سيرة ذاتية فكرية Intellectual Autobiography له أوضح فيها كيف سارت أطوار تحوّله من الفكر الوجودي (السارتري) والاشتراكي (بكافّة ألوانه) نحو الفكر الليبرالي عبر قراءة جادة ومكثّفة في أعمال سبعة أساطين للفكر الليبرالي العالمي. يوسا في هذا الكتاب ليس له نسخة أخرى يمكن قراءتها في كتاب آخر أو رواية من رواياته الكثيرة. ربما من المفيد الإشارةُ إلى أنّ سيرة يوسا في جانبها السياسي المكتنف بالحراك الآيديولوجي نشرها قبل سيرته الفكرية تحت عنوان)سمكة في الماء A Fish in the Water). للأسف لم تُتَرْجَمْ هذه السيرة للعربية كما هو متوقّعٌ.
الميدان الثاني الذي أبدع فيه يوسا هو فنّ المقالة. يوسا المقالي The Essayist هو أعظم إبداعاً من يوسا الروائي كما أرى. ربّما كانت الشاهدة على رؤيتي هذه هو أنّ كثيراً من مقالاته نُشِرت في كتب مستقلة يجمعها رابط فكري محدّد أحياناً، وقد لا يجمعها هذا الرابط في أحيان أخرى؛ لكنّها تظلُّ مادّة ثرية تصلح للقراءة. عمل يوسا أستاذاً زائراً في جامعات كثيرة، ومن محاضراته الكثيرة ثمّة محاضرةٌ طويله في جامعة برينستون الأمريكية كان فيها أقرب لروح مقالاته. و لم تترجم هذه المحاضرات المهمّة حتى اليوم.
الميدان الإبداعي الثالث ليوسا هو أطروحته المعنونة (لماذا نقرأ الأدب؟). أعتقدُ بقوّة أنّ كلّ منشغلٍ بالكتابة الأبداعية الأدبية يجبُ أن يقدّم أطروحته الشخصية بشأن هذا السؤال (لماذا نقرأ الأدب؟)، وستكون هذه الأطروحة ميدان اختبار لقدرته على الإختزال والتكثيف والإستطاعة في البوح بمنابع الإبداع المتفجّرة في روحه وعقله دون السقوط في فخّ المناورة الأكاديمية. كتب (أومبرتو إيكو) و(إيتالو كالفينو) و(هاروكي موراكامي) و(مارغريت آتوود) و(ميلان كونديرا) مثلاً أطروحاتهم الشخصية عن دوافع كتابتهم للرواية، وقد تلوّنت كتاباتهم برؤاهم الخاصة وكيفية عيشهم للحياة التي يرونها تستحقُّ العيش. من البديهي والطبيعي للغاية أن تتباين طرائقنا ومسوّغاتنا لتعاطي الأدب قراءة وكتابة وعلى مستوى الحرفة أو الهواية. عندما نقرأ أطروحة يوسا قد نتّفق معه في حيثيات ونتخالف معه في أخرى؛ لكنّي أتمنّى أن يقرأها الجميع. سنقرأ في أطروحة يوسا عبارات مشرقة على الشاكلة التالية:
" تأتي الأعمال الأدبية في البداية كأشباح بلا شكل أثناء لحظة حميمية في وعي الكاتب، ويسقط العمل في تلك اللحظة بقوة مشتركة بين كل من وعي الكاتب، وإحساسه بالعالم من حوله، ومشاعره في الوقت ذاته. هذه الأمور ذاتها هي التي يتعامل معها الشاعر أو السارد في صراعه مع الكلمات لينتج -بشكل تدريجي- شكل النص، إيقاعه، حركته وحياته. حياة مصطنعة، وللتأكيد، هي حياة مُتخَيلة، صُنِعَتْ من اللغة، وحتى الآن يسعى الرجال والنساء لتلك الحياة، بعضهم بشكل متكرر، والبعض الآخر بشكل متقطع، وذلك لأنهم يرون أن الحياة الواقعية لا تروق لهم، وغير قادرة على تقديم ما يريدون. لا ينشأ الأدب من خلال عمل فردٍ واحد؛ بل يوجد حينما يتبناه الآخرون ويصبح جزءاً من الحياة الإجتماعية عندما يتحول، وبفضل القراءة، إلى تجربة مشتركة".
يوسا غير الروائي أكثر ثراءً من يوسا الروائي والسياسي، وليسوا قليلين هؤلاء الذين على شاكلته من الروائيين والمشتغلين بالأدب. أفضلُ ما نفعله لهؤلاء أن لا نجعل إبداعاتهم غير الروائية تُدفنُ تحت ثقل إبداعاتهم الروائية، ولو فعلنا هذا قبل رحيلهم لكان أفضل بكثير ممّا لو فعلناه وهم راحلون.