ما إن أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، القاضي كريم خان، طلبه الجريء بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، حتى انهالت الهجمات المتوقعة ضده وضد المحكمة. هذه الهجمات قادتها إسرائيل وأنصارها المؤثرون في الغرب، إلى جانب شخصيات بارزة مثل الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي سوناك. ولم تقتصر الانتقادات على إدانة طلب المدعي العام، بل وصلت إلى تهديدات بتقويض المحكمة، بما في ذلك تجميد أموالها وأصول أعضائها، بل وحتى التلويح بالهجوم العسكري على مقرها في لاهاي!
أبرز تلك المواقف الفاضحة ضد المحكمة والقاضي كريم خان، فضلاً عن التصريحات المشينة للزعماء بايدن وسوناك وآخرين، والاتهامات الموجهة باعتبار المحكمة كياناً "صورّياً" وأنها "معادية للسامية"، وأنها "مزحة خطيرة" و"هيئة غير مسؤولة" واعتبار القاضي كريم خان رجلاً "متعصباً ومختلاّ عقلياً"، كانت هي الرسالة التي حملت توقيع 12 عضواً من مجلس الشيوخ الأمريكي من الجمهوريين، وذلك في مايس 2025. فقد تضمنت تهديدات علنية غير مسبوقة دبلوماسياً، وزعمت "بارتباط المحكمة الجنائية الدولية بالدول الراعية للإرهاب"، واعتبرت أن استهداف نتنياهو "هو بمثابة استهداف لسيادة الولايات المتحدة" وغير ذلك. المفارقة أن هؤلاء وأمثالهم أشادوا بالمحكمة عند إصدارها مذكرة اعتقال بحق الرئيس فلاديمير بوتين.
بعد إصدار المحكمة لأمر القبض، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في فبراير 2025، أمراً تنفيذياً يفرض عقوبات على المحكمة وعلى كريم خان، بما يشمل تجميد ممتلكاته ومنعه هو وعائلته من دخول الولايات المتحدة.
ومن الفضائح الكبرى كان التلويح بتفعيل "قانون غزو لاهاي"، وهو قانون أمريكي يهدف إلى تحرير أي مواطن أمريكي أو حليف لأمريكا، إذا كان مداناً وفي الأسر في لاهاي، باستخدام القوة العسكرية إذا لزم الأمر. ورغم هذه التهديدات، لم تنجح قرارات ترامب ولا ضغوط أعضاء الكونغرس في منع المحكمة من تنفيذ ولايتها المستقلة أو إلغاء قرار اعتقال نتنياهو وغالانت.
يكمن الخطر الحقيقي على استقلال المحكمة في عدم التزام بعض الدول الأعضاء بتنفيذ التزاماتها المدرجة في نظام روما الأساسي، مثل القبض على المتهمين عند تواجدهم على أراضيها. وهنا فالضغوط الأمريكية والصهيونية المتزايدة قد تؤدي إلى إضعاف المحكمة سياسياً ومالياً، وربما دفع أعضائها للانسحاب، كما حدث مع هنغاريا.
لقد رفض رئيس الوزراء الهنغاري، المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة، قرار المحكمة، معلناً أن بلاده لن تعتقل نتنياهو في حال زيارته لها. وعندما زار نتنياهو بودابست مؤخراً، أعلنت هنغاريا انسحابها من المحكمة، في خطوة سجّلها نتنياهو كـ"انتصار دبلوماسي" زائف. لكن المحكمة فتحت تحقيقاً ضد هنغاريا لفشلها في اعتقال متهم على أراضيها وهي دولة طرف في المحكمة الجنائية، إذ لا يتم الانسحاب من المحكمة فوراً، بل يتطلب إجراءات تستغرق عاماً على الأقل.
فضيحة أخرى، وليست الأخيرة، تتمثل في نشر كبريات الصحف والمواقع الموالية لإسرائيل تقارير بصياغات متنوعة تستهدف المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، القاضي كريم خان، وتتهمه بـ"التحرش الجنسي" بإحدى موظفات المحكمة في وقت سابق. وقد نفى خان هذه الاتهامات، وسمح للجهات المختصة في المحكمة بإجراء تحقيق في المزاعم. لا شك أن توقيت هذه القضية وطبيعتها يهدفان إلى الإساءة الشخصية للقاضي، وخلق حالة من الارتباك وفقدان الثقة، وربما عرقلة عمل المحكمة.
معروف للجميع، ومنذ قبول فلسطين عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، شنّت إسرائيل حربًا سرّية ومعلنة ضد المحكمة. فقد أصبحت المحكمة، منذ ذلك الحين، صاحبة ولاية قضائية لملاحقة الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية. وواجهت المدعية العامة السابقة للمحكمة، فاتو بنسودة، سلسلة من الانتهاكات شملت التجسس والتهديد والترهيب، بعد مباشرتها تحقيقات أولية في تلك الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال. فإسرائيل تعتبر عضوية فلسطين في المحكمة تهديدًا وجوديًا يفوق في خطورته عضوية فلسطين كدولة في الأمم المتحدة، إذ تُعد المحكمة، بتعبيرهم "آلية ذات أنياب"، بينما أتقنت إسرائيل فن الإفلات من العقوبات والإدانات الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة على مدى سبعين عامًا.
ومن الفضائح اللافتة، تصريح القاضي كريم خان في مقابلة مع الإعلامية كريستيان أمانبور على قناة "سي إن إن"، حيث كشف أن بعض القادة الغربيين أبلغوه بأن المحكمة الجنائية الدولية "أُنشئت لملاحقة الأفارقة والمجرمين مثل فلاديمير بوتين"، في إشارة صريحة إلى ازدواجية المعايير.
على الصعيد الأوروبي، تُعد جميع دول الاتحاد الأوروبي أعضاء في المحكمة، لكن مواقفها تتفاوت بشكل واضح. فعلى عكس الموقف المخزي لهنغاريا، أعلنت دول مثل هولندا وأيرلندا وبلجيكا التزامها الكامل بتنفيذ قرارات المحكمة. في المقابل، اعتبرت ألمانيا وفرنسا أن قرار المحكمة ليس حكمًا قضائيًا نهائيًا، بل هو "توجيه اتهام رسمي"، وهو موقف مشابه لما اتخذته إيطاليا والنمسا، مما يفتح الباب أمام المناورة بشأن اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وبالطبع، لا ينطبق هذا التردد على المتهمين الفلسطينيين المدرجين في المذكرة ذاتها.
وفي سياق لافت، اعترضت الحكومة البريطانية السابقة برئاسة ريشي سوناك على قرار المحكمة بشأن نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. لكن حكومة حزب العمال الحالية سحبت هذا الاعتراض، وأعلنت التزامها بتنفيذ قرار المحكمة واحترامها للمحكمة الجنائية الدولية. يُعد هذا الموقف خطوة مهمة، رغم استمرار الدعم البريطاني المثير للجدل للاحتلال الإسرائيلي ومسؤوليتها عن اقامة "الدولة اليهودية" في فلسطين بالأصل.
-يتبع-