كان (بل غيتس) حاسماً وفي أقصى درجات الوضوح عندما صرّح بأنّ مهناً ثلاثاً ستصمد في وجه إعصار ثورة الذكاء الإصطناعي: مطوّرو البرامجيات ومهندسو الذكاء الإصطناعي، ومتخصصو الطاقة، وباحثو علوم الحياة. الترجمة ليست إحداها للأسف، وهذا ما يجب أن نوطّن النفس عليه ونتحسّب لمفاعيله.
منذ بواكير الذكاء الإصطناعي كانت معالجة اللغة الطبيعية Natural Language Processing واحدة من أهمّ أعمدته. المقاربة المعتمدة حينذاك تمثّلت في تطوير نظم خبيرة Expert Systems للترجمة، وهذه مقاربة لها مثالبُها الهائلة وبخاصة في طرائق التعامل مع النطاق الدلالي للغة المكتوبة. كان ممكناً للمترجم حينذاك أن يضع رأسه على الوسادة وهو متيقّنٌ أنّ نُظُمَ الترجمة الخبيرة مهما تعملقت لن تستطيع مزاحمته في صنعته الترجمية. ما حصل في العقد الاخير شيء كفيلٌ بإطاحة موارد الراحة هذه. المقاربة إختلفت بكيفية جذرية بعدما صارت الشبكات العصبية الإصطناعية هي التي تتكفّلُ بأداء معظم الفعاليات التي كانت إحتكاراً خالصاً للكائن البشري. هذا أمرٌ يجب أن نعترف به ولا نتعالى عليه، وثمّة مصاديق إختبارية مؤكّدة عليه.
أقرأُ هذه الأيّام كتاباً بعنوان (إذا كانت الترجمة خيانة) وهو مذكّرات للمترجم ذائع الصيت غريغوري راباسّا Gregory Rabassa المعروف بترجماته الرائعة عن الإسبانية والبرتغالية إلى الإنكليزية. يوصف راباسّا بأنّه مترجم غزير الإنتاج ومتنوّع الاهتمامات Prolific، وثمّة نظراء كثيرون لراباسّا منهم مثلاً أرثر غولدهامّر Arthur Goldhammer الذي حصل على الدكتوراه في الرياضيات من معهد ماساتشوستس التقني MIT الشهير في أمريكا؛ لكنّه آثر العمل في ترجمة أعمال الأدب والسياسة والثقافة المكتوبة بالفرنسية إلى الإنكليزية حتى تجاوزت ترجماته حاجز المائة وخمسة وعشرين كتاباً. أمثالُ هؤلاء يرون في الترجمة شغفاً وفِعْلَ مثاقفةٍ لا يمكن تعويضُهُ بأيّ منشط آخر. ليس من نشاط فكري كالترجمة يستطيع تحريك بركة الثقافة الساكنة ويغوص في الأعماق البعيدة. عندما يشتغل المترجم الحريص فكثيراً ما يمرّ بمفهوم أو عبارة أو شخوص أو تواريخ أو شواهد تتطلبُ مراجعة وتدقيقاً ومعرفة بخلفيات الحدث المكتوب. يبدو أنّ هذا الحراك الثقافي إستطابه بعض الأشخاص وجعلوا منه عنوانهم الكامل في عيش حياة ترجمية ثرية. راباسّا وغولدهامر بعضُ هؤلاء بالتأكيد، وقد عاشا حياة فاعلة ومنتجة أثرت حياتهم وحياة قرّائهم الكثيرين في كلّ العالم.
منذ وقت ليس بالقصير وأنا أتابعُ الأشواط التي قطعتها خدمة الترجمة الغوغلية Google Translate. ليس بوسع المرء سوى أن يعترف بالتطوّر الثوري في طبيعة ودقّة الترجمة التي تسارعت أشواطها في السنوات الخمس الأخيرة، ثمّ جاء عصر ترجمة الذكاء الإصطناعي عبر تطبيقاته المجانية على شاكلة ChatGPT فكان تأكيداً لأنّنا دخلنا عصر الترجمة الآلية. من غير المناسب أن نكابر وأن نتحجّج بتخلف الترجمة الآلية عن الترجمة البشرية. أنا أحكي من واقع خبرة مُمْتحَنَة وليس بآراء متصلّبة مسبّقة. من الطبيعي أن يدافع المترجمون عن مهنتهم؛ لكنّ واقع الحال يحكي غير ما يقوله المعتدّون بآرائهم المهنية. لن يكون المترجمون وحيدين في شعورهم بالإضطهاد من جانب وسائل وإمكانيات الذكاء الإصطناعي المتغوّلة؛ إذ يشاركهم في هذا الشعور أطباء ومعلّمون ومعظم ممتهني المهن التي تندرج خارج نطاق المهن الثلاث التي أشّرها غيتس.
عندما أكتب هذا الرأي فلستُ أتبنّى الإنقياد الطوعي للترجمة الآلية بقدر ما أريد تأشير الوقائع. الترجمة الآلية ستكون شديدة البراعة في ترجمة الوثائق والمستندات والأوراق القانونية؛ لكنّها ستكون أقلّ براعة بكثير في ترجمة الشعر مثلاً. حتى اليوم قد لا يستطيع المترجم الآلي التفريق بين المؤنث والمذكّر في الترتيب السياقي للكلام؛ لكنّي أعتقد بقوة أنّ هذه مثالب سيتجاوزها الذكاء الإصطناعي في زمن أقرب ممّا نتخيّل.
أقرأ أحياناً موضوعات مترجمة في مواقع نفترض فيها درجة معقولة من الرصانة، وإذا بي أشهد نصّاً من عبارات مفكّكة لا يوجد فيها رابط عضوي يشدّها معاً. أعرفُ حينها ما حصل. قرأتُ مؤخراً موضوعاً يتناول الشعر: منذ البداية تقرأ في العنوان (الخشب المقدّس وأشياء أخرى). واضحٌ أنّ المترجم لجأ إلى الترجمة الغوغلية (أو أي شكل آخر من الترجمة الآلية) من غير تدريب ثقافي كافٍ وإلّا فإنّه لم يكن ليخطئ هذا الخطأ الجسيم عندما جعل من الغابة المقدّسة The Sacred Wood (وهي عنوان كتاب نقدي شهير لـ ت. إس. إليوت) خشباً مقدّساً. هذا ليس خطأ الترجمة الآلية وإنّما خلل في ثقافة المترجم. ألا يكفيك أنّك تتكئ على الترجمة الآلية؟ ألا تراجعُ وتنقّحُ ما تجود به عليك هذه الترجمة؟ ألا تنتبه للضمائر والسياقات؟ هكذا بلغ حال بعض المترجمين للأسف. هؤلاء أبعد ما يكونون عن فعل التثاقف الذي تنطوي عليه الترجمة.
يفوز فلان أو فلانة بجائزة نوبل مثلاً وهُما من غير الأسماء المعروفة أو الذائعة، ولا تكاد بضعة أيام تمرّ حتى ترى أعمالهما مترجمة ومنشورة بالعربية. كيف حصل هذا؟ هل كان المترجم يعرف عبر وسائط سرية بإسم الفائز فتحسّب للأمر وأنجز ترجماته قبل إعلان الجائزة؟ هذه كلها ترجمات غوغلية سيكون المترجم مشكوراً لو تكرّم علينا بمراجعتها والتدقيق في خلوّها من أية أخطاء نحوية أو سياقية أو دلالية. صار كثرةٌ من المترجمين يعملون محرّرين لما تجود به عليهم بركات غوغل الآلية السريعة. أظنُّ أنّ معيار الألف كلمة لكلّ يوم يصلح مع الترجمة الدقيقة. ما يتجاوزُ الألف كلمة في اليوم يبدو عبثاً ومزاحمة في طلب سرعة الإنجاز ممّا لا يتّفق مع عملٍ يتطلّبُ الهدوء والمثاقفة مثل الترجمة. كلّ ترجمة تشتغل تحت طائلة سيف الزمن لا يعتدُّ بها. ستكون كجسد لا روح فيه.
من العبث مقاومة التيارات التقنية الجارفة. الأفضل هو الهدوء وتعظيم وسائل الفائدة من التقنيات الحديثة. لماذا لا يفكّرُ مترجمٌ حاذق في تعلّم تقنيات الذكاء الإصطناعي والإنغماس في عوالمه؟ ليس من وقت متأخّر لمن يسعى لتعلّم حقيقي يقود لمهنة حقيقية ، وهذا هو أحد الدروس الثمينة التي يمكن أن نتعلّمها ونستثمرها في عالمنا المعاصر. ربّما سيكون في عداد الأساطير الغابرة بعد بضع سنوات أن نبدأ بمهنة ثمّ ننهي حياتنا بالمهنة ذاتها. التدريب المستمرّ وتعدّد ألوان المهن سيكون أمراً طبيعياً للغاية، ويجب أن نتدرّب عليه بدلاً من إطلاق الزفرات على مهنة تداعت بضربة الذكاء الإصطناعي القاضية.
سيظلّ العالمُ مكاناً فسيحاً وطيّباً لمن يسعى لأن يعيش ويتعلّم ويعمل ويستشعر الجمال حتى وهو يظنّ أنّ حياته إستحالت أزمة مستعصية بفعل مهنة نهشتها مخالب الذكاء الإصطناعي.
نعم، ستنتهي مهنة الترجمة عمّا قريب؛ لكنّ هذه الحقيقة ليست تسويغاً لخسارة شغف تعلّم اللغات. هذه بعض طبائع الثورات التقنية: كلّ ثورة تقنية تجعلنا نخسرُ بعض مواهبنا أو مهاراتنا؛ لكنّ هذه الخسارة ليست حتمية إلّا إذا أردتها أنت أن تكون خسارة نهائية. وجودُ السيارة في حياتنا ليس علامة مؤكّدة على إنتهاء فعالية المشي اليومي. لم يرغمك أحد من كبار صانعي السيارات في العالم على ركوب سيارتك حتى وأنت تذهب لحلاقة شعرك أو تتسوق مشترياتك اليومية. الأمرُ رهنٌ بإرادتك.
سيبقى المترجم المجتهد مثابة يُشارُ إليها بكلّ الإحترام والتقدير؛ لكنّي -ومنذ سنتين تقريباً- شعرت بأنّ الترجمة مهنةٌ ستزول قريباً . مطارقُ الذكاء الإصطناعي لن ترحم مترجماً مهما بلغت براعته المهنية. لستُ متيقّنة أيّ العملتيْن ستطردُ الأخرى من سوق الترجمة: الرديئة أم الجيدة؛ لكنّي أوقنُ أنّ الذكاء الإصطناعي سيحلّ محلّ الجيّد والرديء معاً بسبب سرعته ورخص تكلفته، وها أنذا آثرتُ الابتعاد بهدوء عن ترجمة الكتب في سوق متزاحمة أساءت حتى للترجمة الآلية ذاتها عندما إرتضت أن تجعل من غابة إليوت المقدّسة محض خشب مقدّس!!.