بوصفها «وسيط» مهم لكشف القيم الدلالية، تلعب وسائل الإعلام كمصدر مباشر للتنمية المعلوماتية بهدف الوصول لمعرفة الحقيقة ونشرها، دورا مؤثرا في حياة المجتمع ويقظته الفكرية والثقافية والوطنية. أيضا «عامل» مهم للرأي العام، الذي يشاركها صناعة الحدث بنشاط في مجالات مختلفة منها الأحداث السياسية والثقافية والاقتصادية والمجتمعية، وبشكل خاص، عندما تحل، «الانتخابات العامة» لأهميتها الوطنية والسياسية وشأن هذا الأمر بما يتعلق بالضرورة بالمصالح العامة. يتم ذلك ليس فقط من خلال التقارير والتعليقات في الصحف أو بث الأخبار على شاشة التلفاز. أيضا، من مشاهدة الوثائق التسجيلية التي تحمل رسائل سياسية تقوم بدور مهم في تشكيل الوعي أو تغيير بوصلة الرأي العام حتى في مناقشة قضايا المحرمات الاجتماعية والتاريخية.
في أغلب الدول المتحضرة ينص القانون الأساسي على:” حرية الصحافة وحرية النشر في وسائل الإعلام المقروء والمرئي والسموع مكفولة، ويحضر تشديد الرقابة عليها”. ويعمل على هذا المبدأ آلاف الصحفيين دون رقابة لإحاطة السكان بما يجري في الحياة العامة للدولة والمجتمع، بما في ذلك الأمور البالغة الخطورة، كالسياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، إلا في العراق، فالأمر مختلف تماما.
لا أحد يستطيع أن ينكر بأن معظم وسائل الإعلام في بلدنا تتأثر بسلوك ومواقف أصحاب السلطة وقراراتها السياسية المثيرة للجدل، يعود ذلك لسيطرة الأحزاب الماسكة والمؤثرة في القرار الإعلامي. فلا عجب إذن أن مصطلح” ديمقراطية وسائل الإعلام “الذي يروج له أصحاب السلطة ومن يظهر من المتحمسين للدفاع عن سلوكهم في وسائل الإعلام من صحفيين ومقربين متأدلجين، في مرحلة لا وجود فيها لآليات موضوعية رقابية وقانونية ومجتمعية تكفل تحقيق ذلك بالحد الأدنى للساعة. يبقى الحكم على هذا المفهوم بالوقائع والسلوكيات، شعارا ساذجا، لا قيمة له في الأوساط العامة والحياة الاجتماعية.
المثير على ضوء المتغيرات الناتجة بشكل مستمرـ عن طبيعة السلطة السياسية وهيكلها الطائفي الذي يتناقض بالأساس مع مفهوم الديمقراطية: إذا كانت” ديمقراطية وسائل الإعلام “يمكن أن تكون ديمقراطية حقا، ألا ينبغي أن نتحدث بشكل صريح ـ عن تسلط الأحزاب على وسائل الإعلام؟ والسؤال الأكثر فضولا:” من هي أصلا وسائل الإعلام الديمقراطية هذه؟ وكيف ولمصلحة من تعمل وتنشر سمومها؟...
الحقيقة، المشهد الإعلامي العراقي في منهجه وأسلوبه في السنوات الأخيرة لما بعد الاحتلال، لم يعد كما كان معروفا في خمسينيات القرن الماضي، إعلاما وطنيا ملتزما إلى حد ما. ولسوء الحظ، أصبح إلى حد كبير يخضع لمؤسسات حزبية فاسدة “كارتيلات” مافيوية تابعة لمتنفذين في أجهزة الدولة وبعض أحزاب السلطة وشركائهم، ولم يعد هناك إلا ما ندر من دور صحافة ونشر وإعلام مستقلة. ومع مرور الوقت، أصبح هذا النمط من الإعلام على النقيض من الإعلام النزيه ومنتسبيه من صحفيين وحرفيين وكتاب ضحوا بمصيرهم ومستقبلهم من أجل كشف الحقيقة وشرف المهنة. بالمقابل هناك من الصحفيين العراقيين من أصبحوا أبواقا لمؤسسات إعلامية تجانب الحقيقة على حساب المبادئ والقيم الوطنية والمجتمعية، وأيضا على حساب معاناة الصحافيين والإعلاميين الشرفاء الذين يمثلون الرأي العام الآخر في المؤسسات الإعلامية النزيهة على قلتها.
لكن أي نوع من الناس، هؤلاء الذين يسيطرون على أغلب مراكز ومؤسسات الإعلام العراقية التي تشكل مصدرا مهما للرأي العام؟... فهل يمكن لصاحب الامتياز “المليونير” وضع نفسه للحظة في مكان المواطن العادي الذي يواجه مستقبل تعيس وندرة ما يحقق من احتياجات ليدرك قساوة نزواته لأجل مكاسب فئوية أنانية تتعارض مع المصالح العامة؟. والسؤال المنطقي أيضا: هل هناك من الطامعين للعمل في كارتيلات الإعلام التابعة لبعض الأحزاب، لا على أساس مفردات المهنة وسلوكياتها الأخلاقية والحرفية، أنما بهدف المصالح وبناء العلاقات البينية مع أصحاب المسؤولية التي تعود بالفائدة وتحقيق المكاسب المالية والشخصية. نقول، هل مستعد من باب تأنيب الضمير تقديم العون لأقرانه من أصحاب المهنة، أو يتحمل جزء من المسؤولية القيمية والأخلاقية لأجل كلمة حق واحدة تتعلق بمعاناة المسحوقين الذين يتسكعون بين أماكن القمامة دون مأوى وضمان اجتماعي وعدالة مدنية وكرامة تبشر بها كل القيم الانسانية والشرائع السماوية والدينية والاخلاقية؟...
في الختام، يمكن القول إن فصل الإعلام عن الآليات الموضوعية من قبل بعض الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الحكومية، لا يضعف فقط الإعلام كأداة اتصال جماهيري، بل يهدد استقرار المجتمعات ويقوّض من إمكانيات التنمية والشفافية. فالإعلام غير الموضوعي هو إعلام ناقص، يعكس واقعا مزيفا أكثر مما يعكس الحقيقة. وان ما يهم شريحة الإعلاميين الإنتهازيين، ليس “قيمة الكلمة” كمسألة رأي عام يجب أن تقدس. إنما إنتهازية الموقف الذي لا يسمح حتى إبداء أية رأي مستقل نسبيا “لقضية حق” مخالف بشكل ما لرأي المؤسسة وإدارتها!.