الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
نحنُ نفكّر، هُمْ يصنعون!!

كثيرون يؤمنون حدّ التصريح المعلن أنّ "الآخر لافكر لديه. هو يصنع فحسب". أظنّ المقتنعين بهذه العبارة من غير الجهر بها هم أكثر بكثير من المجاهرين. يستطيع كلٌّ منّا أن يقول ما يشاء؛ لكنّ المفاعيل المرئية على الأرض هي التي تبرهن على صدق ما نقول. بغير هذا لن تكون أقوالُنا سوى طاقة مبدّدة في العراء. لن تهمّنا الخلفية الثقافية والإجتماعية لمَنْ يصرّحُ بهذه الفكرة. الأمرُ سواءٌ لو وضع القائل عقالاً على رأسه أو إعتمر عمامة أو إرتدى ربطة عنق مع بدلة (أرماني).

سنفكّكُ خلفيات هذه المقولة بهدوء. ثمّة عناصر مشتبكة دافعة لمثل هذه القناعة الخبيئة أو المصرّح بها جهراً.

أوّلاً: هي أقربُ لملاذ حمائي مدفوع بآلية دفاعية Defense Mechanism ناجمة عن الشعور المتنامي بالخذلان والعجز. يبدو الحلّ الناجز والأكثر يُسْراً من سواه هو التشبّثُ بالمقولات الكبيرة ذات الوقع الرنّان الذي تطرب له النفس المخذولة. ليس أيسرَ من القول (الآخر لايمتلك فكرا. هو يصنعُ حسب) ثم تمضي في قيلولتك المسترخية متخيلاً أنّ الفكر -كلّ الفكر- إنّما هو منتجٌ مختومٌ بإمضائك. إنّها سايكولوجيا الوهم: إطرحْ مقولة كبيرة تتخفَف بتأثيرها من ثقل شعورك بالخسارة، ثم تمتّعْ بنوم ثقيل. هذه المراوغة النفسية تبدو أهْوَنَ في حمولتها من مقولة أخرى يصرّحُ مبتدعوها أنّ المسلمين لم يُخْلَقوا للعمل والإنجاز والإبتكار بل لهداية الآخرين!!. حتى في أدبيات التنمية نعثرُ على مكافئ لهذه العبارة عندما يصرّحُ كثير من الخبراء أنّ العقلية العربية (لننتبهْ: قلتُ العقلية Mentality وليس العقل Mind وبينهما فرقٌ شاسعٌ) هي عقلية أخروية لا تصلح للإنجاز والإزدهار الدنيوي.

ثانياً: لا يمكن إغفالُ الجانب الفلسفي المعرفي (الإبستمولوجي) عن هذه الأطروحة. الإشكالية هنا في مفردة الفكر Thought. يبدو لمُطْلقي هذه الأطروحات ومُروّجيها المجاهرين والمتخفّين أنّ الفكر هو نتاجُ (التَكايا) والأماكن المغلقة. ترى أحدَهُمْ يحرص وهو يتحدّث أن تكون في خلفية مجلسه أجزاء كثيرة من كتب تراثية في معظمها: ثلاثون جزءاً من كتاب (.....) وخمسون جزءاً من موسوعة (......). معرفتنا فقهية كلامية وليست معرفة مؤسسة على معايير إختبارية. ثمّ هناك الفصل الحاصل بين الفكر والناتج العملي. الفكر في النهاية يسعى للإرتقاء النفسي والمادي بحياة الإنسان. بمعنى آخر: يسعى الفكر لخلق الثروة ورفاه المجتمع عبر وسائل وبكيفيات مستجدّة كلّ بضعة عقود. هل أحتاجُ التذكير بالذكاء الإصطناعي ومؤثراته التي تعيد تشكيل عالمنا المعاصر؟ التفلسف من أجل التفلسف المحض لم تعُد بضاعة الغرب. تلك بضاعتنا التي هي منتج كلامي أكثر من كونها فلسفة حقيقية.

ثالثاً: ربما نقعُ في خطر التعميم القائم على إنطباع المشهد الأوّل. قد نسافرُ للصين أو للغرب فنكتشفُ أنّ معظم مَنْ نتعامل معهم أناسٌ عاديون؛ بل أقلّ من عاديين بمقاييسنا. يمضون أغلب وقتهم في العمل، يتناولون طعاماً بسيطاً سريعاً، ويطلقون العنان لجموحهم في عطلة الاسبوع. سنكتشفُ أنّهم ليسوا كائنات خارقة كما تصوّرناهم. المعضلة فينا وليست فيهم. نحنُ من تخيّل أمراً غير حاصل في الواقع؛ لكنْ في المقابل لا يصحُّ الإرتدادُ إلى مقايسة أنّ هؤلاء لاعلاقةٌ لهم مع الفكر. هُمْ يتصرّفون على أساس عملي، لا يحشرون أنوفهم في موضوعات الحداثة ومابعد الحداثة والفلسفات السياسية وسياسات الذكاء الإصطناعي ووووو،،،، نعم قد يقرأون فيها لكنهم لا يتحدّثون حديث ذوي خبرة متراكمة؛ بل حتى قراءاتهم غالباً ما تكون بسيطة بعيدة عن الموضوعات الغارقة في التعقيدات التقنية. الآخرون مثلا يسوّغون هذا الأمر بقولهم أنّ مَنْ ينشد معرفة دقيقة بأيّ حقل معرفي عليه أن يوفّر كلّ جهده وطاقته لذلك الحقل، وسيتقاضى أتعاباً عن جهده إذْ لا وليمة مجانية في الكون، كما أنّ سنوات العمر لن تكفي لبعثرتها في نُتَفٍ معرفية من هنا وهناك. يعرف معظمنا من بعض خبرته هذه الحقيقة، ولو أردتُ إيراد أسماء شرقية وغربية من الباحثين في حقول معرفية بعينها فليس أيسر من هذا الأمر. الأسماء أكثر من أن يحيطها إحصاء.

رابعاً: ثمّة جانب أخلاقي في المسألة يختصُّ بالصناعة الأخلاقية لدينا. الأخلاق لدينا منتج فلكلوري يبدو مكتملاً ومكتفياً بذاته منذ سنوات النشأة الأولى وليس عرضة للتغيير والتبديل بفعل الخبرات المستجدّة، ولما كانت خبراتنا المستجدّة الناجمة عن التفاعلات البيئية الثقافية (صِدام الثقافات) قليلة أو محدودة لأسباب كثيرة فقد نشأ لدينا نمط متكلّسٌ من الفلكلور الأخلاقي المدعم بشواهد دينية حسب. لا بأس من مثال حيّ. لندقّقْ فيما كتبه الدكتور صموئيل جونسن:"لا يوجد على الأرض مكان يصدمك بالغرور المترسّخ في آمالنا البشرية أكثر من مكتبة عمومية؛ فمَنْ ذا الذي لن تنكسر غطرسته المتخيّلة وهو يرى الجدران الأربعة للمكتبة ملأى عن آخرها بالمؤلفات الضخمة نتاجِ التأملات الشاقة والأبحاث الدقيقة التي لا يعرف أحدٌ الكنوز المخبوءة في فهرس محتوياتها؟". قارنوا هذا المثال الجذّاب والمثير في حمولته العملية مع المقولات الوعظية العامة لدينا. كم أتمنّى أن يقف المدّعي بفقر الآخرين إلى الفكر أمام متحف المتروبوليتان في نيويورك أو مكتبة بودليان في جامعة أكسفورد مثلاً. لن يكون أمامه سوى أن يقلع عن غطرسته أو أن يقفل عائداً إلى ملاذه الحمائي البعيد ليداور أفكاره الشخصية بمفرده.

خامساً: ثمة مغالطة داخلية في مقولة (الآخر لافكر لديه. هو يصنع حسب) تجعل منها مقولة متهافتة تاريخياً. كيف يحصل التصنيع أو الثورات الصناعية على وجه الدقّة؟ هذه الثورات لن تصنعها عقول راكدة بل عقول تفكّر. الأفكار تسبق الأفعال أياً كانت تلك الأفعال. قد نفكّرُ بأفكار لا تنتهي إلى أعمال مشهودة على الأرض؛ لكنّ العكس غير صحيح. لا أفعال من غير أفكار تسبقها وتمهّدُ لها. الأعاجيب الهندسية مثلاً هي نتاجُ أفكار عبقرية إستطاع أصحابها تطويع البيئة الطبيعية لتخدم تطلعات الإنسان وطموحاته. لو تابعنا الخطّ التطوّري للثورات الصناعية لرأينا أنّ مقدار الفكر ونوعه في كلّ ثورة لاحقة يتقدّم على الثورات السابقات، وها نحن مع مقدم الثورة الصناعية الخامسة على وشك الدخول في عصر الذكاء الإصطناعي العام والفائق.يحصل هذا التطوّر الثوري من اشتباك الأفكار في حقول الفلسفة والتقنية والرياضيات والعلوم العصبية والمنطق وعلوم الحاسوب وأرقى حلقات تصنيع الرقائق المصغّرة.

سادساً: قد يقول المنافحون عن صدقية مقولة (الآخر له التصنيع ونحن لنا الفكر) أنّهم إنّما يقصدون الفكر الأخلاقي. هذه أخدوعة سائدة من قبيل دسّ السم بعسل الكلام الشائع. لن أدافع عن وهم التفوّق الأخلاقي لدى الاخرين. لن أفعل هذا مثلما لن أقع في حبائل فخّ تفوّقنا الأخلاقي. نحن لسنا بأفضل منهم، وأراهم يتقدّمون علينا في أحايين كثيرة بسبب حرية الفكر غير المقيّدة في التعبير عمّا يشاؤون. لننظرْ في حال عراقنا الذي جعلناه هيكلاً عظمياً ولم نزل عازمين على سلبه آخر عوامل الحياة. أين هي الأخلاق المُدّعاة؟ هل يفعل الألمان أو البريطانيون أو الفرنسيون أو الصينيون عُشْر معشار هذا ببلدانهم على مستوى البشر والساسة؟

هذا أقلّ القليل من غيض الفيض الذي يمكن تقديمه لتفنيد الأطروحة المتهافتة (الآخر لايملك فكرا. هو يصنعُ حسب). ربما أراد مناصرو هذه الأطروحة القول المضمر بأنّ (الآخر) لا يفكّر مثلنا، وَهُمْ في هذا صادقون. مسافاتٌ نوعيةٌ بعيدة تفصل بين الفكريْن طبيعةً ومخرجاتٍ عملية.

عالمُنا اليوم يسير بخطوات متسارعة نحو تشكّلٍ استقطابي خطير ستسود فيه ثنائية الأذكياء/الجهلة، والذكاء هنا هو بمعايير الذكاء الفائق المتساوق مع اشتراطات الثورة الصناعية الخامسة، وليس ذلك الذكاء المتخيّل المُنتج في الزوايا المعزولة التي لم يمسَسْها ضوء الشمس منذ قرون مديدة.

  كتب بتأريخ :  الأحد 11-05-2025     عدد القراء :  246       عدد التعليقات : 0