أكدت المعطيات العلمية بما لا يقبل الشك الترابط الوثيق بين المناخ والصحة البشرية. وللتغيرات المناخية تأثير كبير على صحة وحياة الإنسان. واليوم تشكل التغيرات المناخية أكبر تهديد للصحة يواجه البشرية، ويعكف مهنيو الصحة في العالم بدأب على التصدي للأضرار الصحية التي تسببها. وقد خلصت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) إلى أن تفادي الآثار الكارثية على الصحة من شأنه درء حدوث ملايين الوفيات المرتبطة بتغير المناخ.
تؤثر التغيرات المناخية على الصحة العامة بطرق عديدة، منها التسبب في المرض و الوفاة، نتيجة الظواهر الجوية المتطرفة التي تزداد تواترا، مثل موجات الحر الشديد، والعواصف، والفيضانات وتعطل النظم الغذائية، وتزيد الأمراض الحيوانية المنشأ، والأمراض المنقولة بالأغذية والمياه والنواقل، إضافة لمشاكل الصحة النفسية. وعدا هذا، تقوض التغيرات المناخية العديد من المحددات الاجتماعية للصحة الجيدة، مثل سبل العيش والمساواة وإتاحة الرعاية الصحية وهياكل الدعم الاجتماعي. وأكثر المخاطر هي على صحة أكثر الشرائح الإجتماعية ضعفا وحرمانا، وفي مقدمتها الأطفال والنساء وكبار السن والأقليات الإثنية والمجتمعات الفقيرة والنازحين والمهاجرين والمشردين والأفراد الذين يعانون من ظروف صحية كامنة.
وفقاً لأبحاث منظمة الصحة العالمية (WHO) من شأن التغيرات المناخية ان تؤدي عموماً الى: تزايد المخاطر الصحية، وازدياد الوفيات الناتجة عن الارتفاع المتزايد في درجات الحرارة.، وازدياد حالات الإصابة بالربو، والحساسية التنفسية، وأمراض الجهاز التنفسي الأخرى، وازدياد الأمراض المنقولة بالنواقل والأمراض حيوانية المصدر، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والسكتة الدماغية،والأمراض المنقولة بالغذاء والمياه، والصحة النفسية واضطرابات التوتر، وبعض أنواع السرطان،والتهديدات للتنوع الأحيائي والحياة البرية.
بشأن العراق، قررت الأمانة العامة لمجلس الوزراء، في اَذار 2009، تشكيل لجنة مختصة لإعداد مسودة مشروع تأثير تغير المناخ على الصحة، وكان المشروع ممولاً من WHO.وكان من المقرر أن تقدم اللجنة توصياتها الى دائرة شؤون اللجان في الأمانة العامة لمجلس الوزراء في فترة محددة..
لا نعلم هل تشكلت اللجنة، وهل أعدت المشروع؟ وما فحواه؟، وهل جرت متابعة للقرار؟
بيد ان الأكيد هو ان المشاكل البيئية الساخنة، وبضمنها التغيرات المناخية، ما تزال بعيدة عن إهتمام وأولويات الحكومات العراقية، مقرونة بجهل وإهمال مؤسساتي ومجتمعي في تقدير خطورة هذه التأثيرات على المواطنين:على واقعهم الإقتصادي والإجتماعي، وعلى تنمية البلد ورفاهيته، وعلى الصحة العامة.
لقد شهد ويشهد العراق تعرضه لتغيرات مناخية شديدة، تجسدت في موجات الحر الشديد، تجاوزت 50 درجة مئوية، وتفاقم العواصف الغبارية، وشحة الأمطار،والجفاف، والتصحر،الذي إبتلع قرابة نصف الأراضة الصالحة للزراعية، وبالتالي تقلص السلة الغذائية، لدرجة أصبح العراق يستورد حتى الخضروات من دول الجوار.
ما يجلب الإنتباه بالنسبة للعواصف الغبارية التي يعاني منها العراق أنها أصبحت متكررة ومتزايدة، حتى بلغت نحو 277 يوماً، وبالتالي فان فترة حدوثها لم تقتصر على أشهر محدده من السنة، وهي لاتفارق أيام مدينة بغداد تقريباً.وقد نجم عنها تداعيات صحية وخيمة.
يؤكد الدكتور ازاد حسين اخصائي الامراض الحساسية وجود اعداد كبيرة من المرضى يتحسسون لهذا النوع من الاتربة والرمال من خلال الجهاز التنفسي مما يؤدي الى حدوث حالات في نقص كمية الاوكسجين التي يحصل عليها الجسم او الاختناق وحتى التسمم وهناك مرضى يحتاجون الى عناية خاصة اثناء هبوب الرياح مما يستدعي ادخالهم الى المستشفيات بالذات الاطفال المصابين بالربو وهناك مرضى يستخدمون البخاخات التي تقوم بتوسيع الجهاز التنفسي بشكل يسمح بدخول الاوكسجين.
ويلاحظ العاملون في المستشفيات الحكومية منذ سنوات عديدة زيادة عدد المرضى المصابين والوافدين خلال وبعد انتشار مثل هذه الرياح والعواصف وبسبب نقص التجهيزات والادوية والمستلزمات المتاحة في المراكز الصحية والمستشفيات فان بعض المرضى تتدهور حالتهم الصحية ويتعرضون للوفاة.
ويواجه أفقر سكان العراق خطرا صحياً متزايدا، في بلد هو من بين أكثر خمس دول في العالم تأثرا ببعض تداعيات التغير المناخي، وهم مهددون بأمراض جلدية مثل الليشمانيا والإسهال المزمن والكوليرا والربو الناجم عن العواصف الرملية.ومن بين أولى الضحايا هم أطفال العراق – براعم عماد مستقبله.
فقد تبين بأن العراق يحتلّ المرتبة 61 من أصل 163 بلدًا في "مؤشر اليونيسف" عن مخاطر تغير المناخ على الأطفال. وقد تم تصنيف العراق حسب تقرير الأمم المتحدة بشأن البيئة في العالم (GEO-6) باعتباره خامس دولة معرضة لدرجات الحرارة القصوى ولنقص المياه والغذاء. يرجع هذا الترتيب المرتفع إلى مخاطر تغيّر المناخ الشديدة، التي يتعرض لها المواطنون العراقيون وفي مقدمتهم الأطفال.
الى هذا،يعيش نحو 1.2 مليون عراقي ظروفاً قاسية في مستوطنات غير رسمية، حيث تفتقر المجتمعات المحلية النازحة في كثير من الأحيان إلى الحصول على الخدمات الأساسية، وهو ما يزيد من التوترات في المراكز الحضرية التي تتصارع مع إمدادات المياه المتوترة وخدمات الصرف الصحي والكهرباء.
في تقرير لها منتصف أيلول 2023، لفتت منظمة الصحة العالمية الأنظار الى صعوبة الوصول إلى العناية الطبية الملائمة في المناطق النائية بإعتبارها من العوامل المساهمة في تفاقم المشكلات الصحية.
وسلط تقريرها الذي صدر في أواخر عام 2024 الضوء على أمراض الجهاز التنفسي المرتبطة بالعوامل المتعلقة بالمناخ باعتبارها خطرا صحيا رئيسيا في العراق، مشدداً على ضرورة "تحسين إدارة جودة الهواء واستراتيجيات التكيف مع الرعاية الصحية".
وأجرى د. رسل زيدون قراءة في تقرير WHO بعنوان "التغير المناخي والصحة"،نشرها في "المجلة العراقية للطب والرعاية الصحية" ووجد فيه بوضوح أن العراق يقف أمام تحديات مزدوجة تؤثر بعمق على بيئته وصحته العامة. وان التقرير يقدم صورة شاملة للتحديات التي تواجه العراق نتيجة تغير المناخ وتأثيراته الصحية، مما يدعو إلى التفكير بعمق في كيفية مواجهة هذه الأزمة المتشابكة.
وكان التقرير الذي نشرته "New Security Beat" (مدونة أميركية لبرنامج الأمن والتغير البيئي التابع لمركز ويلسون الأميركي) توقع أن يؤثر التغير المناخي في العراق جراء التصحر والجفاف وزيادة العواصف الترابية على الوضع العام في البلاد ويفاقم مظالم انعدام المساواة الاجتماعية وسوء الصحة العامة. فمن الضروري أن يلعب التكيف مع المناخ دورًا في استجابة الحكومة العراقية لمعالجة العديد من مظالم أولئك الذين يعيشون هناك.وإعتبر توفير الخدمات اللائقة أمرًا أساسيًا لشرعية الحكومة. ومع ذلك، يواجه سكان العراق التحديات التي تفرضها الخدمات غير الكافية على نطاق واسع,
وجاء في تقرير لمجلة "الدراسات الأمنية" في جامعة جورج تاون الأمريكية، أن "مساعي العراق لبناء القدرة على الصمود ضد تهديدات تغير المناخ، تلزم اتخاذ إجراءات عاجلة لتأمين الموارد المائية وحماية السكان الضعفاء وتعزيز مرونة القطاع الزراعي.
وأشار التقرير إلى أن الأحداث المناخية المتطرفة ليست سوى جانب واحد من كيفية تسبب تغير المناخ في جعل الوضع المحفوف بالمخاطر في العراق أسوأ، مما يؤدي إلى تفاقم نقاط الضعف الحالية.
ورأى من الضروري أن تضع جميع المبادرات التخفيف من آثار تغير المناخ ضمن الأولويات، والاستفادة الكاملة من تمويل التكيف مع المناخ. وحذر ان الفشل في تغيير المسار السياسي عواقب بعيدة المدى على السلام والاستقرار، وسيؤدي إلى مزيد من عدم المساواة في بيئة غير مواتية بشكل متزايد.
لكل ما مر، لابد ان تُفعلُ أستراتيجية التكيف مع آثار تغير المناخ والتخفيف من وطأتها، وتولي أهمية خاصة لتأثير التغيرات المناخية على الصحة العامة في العراق، وإيلاء القطاع الصحي الإهتمام المطلوب من قبل الحكومة، بإعتباره من القطاعات الحيوية في الدولة العراقية ويتوجب ان يحظى بأولوية في السياسة الوطنية للبلد خاصة انه يعني بحياة المواطن وأمنه الصحي...
فهل ستدرك ذلك المنظومة السلطوية؟! !