الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بين فكي المشاركة والمقاطعة!

يتناول سارتر موضوع "الخيانة"، باعتبارها "خيار حر" يتحمل فيها الفرد المسؤولية كاملة. لا تقل إنك وضعت في ظرف معين، واضطررت إلى موقف رغماً عنك لأنك مسؤول عن كل ما يتعلق فيك بما في ذلك ما صنع فيك، وإن لم يكن بمقدورك أن تقاوم. بالنهاية أنت المسؤول. أنت حر في أن تختار بين أنْ تكون خائناً، أو لا تكون، وحرية الاختيار هذه تتطلب "شجاعة".

لا تقف الحالتان على مستوى واحد ومسافة متساوية عندما يؤخذ الجانب الأدبي والأخلاقي في الاعتبار. مقبول ألا تكون خائناً معبراً بذلك عن شجاعتك، ولكن الشجاعة باختيار الخيانة والقبول بالدخول في صف العدو وتحمل خصومة الأهل والمعارف والأصدقاء ليس مما يبعث على الشرف. وهذا جانب أخلاقي مهم. يصبح هذا الجانب الأخلاقي أكثر أهمية في مجتمع ذا أغلبية مسلمة لا يفصل بين حكم القانون والأخلاق البتة بل يزاوج بينهما. فيما عدا ذلك يمكن أن تخون لقناعتك، أو لجبنك وتخاذلك وهذا ما يجعل منك "مثقفاً مزيفاً" لأن المثقف الحقيقي مع الخير والعدل والإخلاص، وسلامة الهدف، وإن كان بمديات محددة. فنحن لا نقوم بفعل الخير دائماً من أجل الخير. لا بد أن تكون هناك مبررات مثل الوطنية والمسؤولية تجاه الجماعة أو المصلحة المشتركة والكبرياء الشخصي. هكذا يكون المثقف الحقيقي بحسب تصنيف سارتر، مع أو ضد. يمكن أن تكون على خطأ أو تتحمل موقفاً أخلاقياً مهيناً ولكن المهم أنك اتخذت موقفاً محدداً. ويستكمل الفيلسوف الفرنسي بطرح إشكالية في غاية الأهمية تظهر في سلوكيات ومواقف الصنف الثاني من المثقفين، "المثقف المزيف"، وهو الذي يعجز عن الاختيار بسبب تردده وحيرته وحتى تواطؤه بين أن يكون خائناً... ولكن، وبين ألا يكون كذلك... ولكن. وهذا ما جسده في شخصية "غوت" في مسرحية "الشيطان والرحمن"، الذي عادى الكنيسة لتخليها عن الفقراء، ولكنه عاب على الفقراء تخليهم عن الكنيسة. لم يستطع الجزم. ويضرب مثلاً آخر يتمثل بأولئك المثقفين الفرنسيين الذين ساندوا الشعب الفيتنامي في الحرب ضد الاحتلال الأمريكي خلال السبعينيات، ولكنهم نكصوا عن المطالبة بإنهاء الاحتلال خشية أن يؤدي ذلك إلى دعم الشيوعيين!! كانوا مع المقاومة الفيتنامية، ولكنهم ترددوا عندما نظروا إلى دور الحزب الشيوعي الفيتنامي الذي كان يقود جبهة التحرير الفيتنامية. تراجعوا عن نصرة الحق وانكفأوا على أنفسهم وجماعاتهم الصغيرة لمصالح ذاتية أو كبرياء وطني أو قناعة سياسية. ولكن الذي كان يجري بالنهاية حرب إبادة من جانب جيش بلد كبير ضد شعب بإمكانات متواضعة وغير متكافئة. لقد أفرغت "الدائرية"، أو جدل "البيضة أم الدجاجة"، جدوى مساهماتهم.

وهذا ما نراه اليوم في العراق بشأن الموقف من الانتخابات النيابية التي يفترض القيام بها مطلع تشرين الثاني من العام الجاري 2025. قلة ممن يدعون لأحد الموقفين بصورة حاسمة وقطعية وفق منطق المشاركة أو المقاطعة، فحسب. ولكن الإشكال في الأغلبية الساحقة التي تقف في حالة الـ "بين - بين". هؤلاء الذين يدعمون المشاركة في الانتخابات باعتبارها ممارسة مواطناتية ديموقراطية حرة في الوقت الذي يصرفون فيه النظر عن التلاعب والغش والتزوير والسلاح ومختلف أشكال التدخلات. وأولئك الذين يدعون إلى المقاطعة دون الوصول إلى حد المطالبة بإسقاط النظام، وتغيير نظام الحكم من نيابي إلى رئاسي على سبيل المثال، أو العودة إلى نظام الحكم الاستبدادي باعتباره حلاً لكل حالات انعدام الضبط والربط في المجتمع، اليوم.

وهنا يظهر وزن ودور المثقف العراقي الذي يكاد يغيب بدلالة سيادة حالة الـ "بين – بين". فلو حظي المجتمع العراقي بطبقة وليس مجرد ثلة من المثقفين الحقيقيين أصحاب القضية ممن لا يرجون جزاءً أو شكورا لكان ممكناً أن يتوجه الناس باتجاه مشاركة فاعلة وإيجابية ريثما تتطور الأحوال أو مقاطعة فعالة تقلب البساط على المرشحين الحاليين، وتساهم بإقامة نظام يحظى بالدعم الشعبي المنشود. ولكن الغلبة في ضوء هذه الحالة للمثقف المزيف. هذا الذي يتأرجح بين المقاطعة هنا، والمشاركة هناك لأسباب مختلطة فيما يضع لبوس المثقف الحقيقي وهو ليس كذلك. أو أن يدعو إلى المشاركة، ولا يمارسها، أو على الضد يدعو إلى المقاطعة ويخونها في اللحظات الأخيرة، إلخ.

لعل هذه الصورة ترقى إلى مستوى ظاهرة اجتماعية يستطيع أن يراها القاصي والداني بصورة جمعية وموضوعية وخارجية ومستقلة عن ذاته كما يحدد إيميل دوركهايم سمات الظاهرة الاجتماعية على نحو دقيق. وهذا ما تناوله عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في مفهوم "الازدواجية". ما ميز الوردي أنه طوّع مفهوم "الازدواجية" ونقله من "صراع الحضارة والبداوة" حسب ابن خلدون، إلى صراع "الريف والمدينة" حسب مفرداته. واليوم، بعد عقود على عمل الوردي يصح القول إن "الازدواجية" مرت بمرحلة "التصيّر" الذي جعل منها حالة اجتماعية شكلت امتداداً لازدواجية الخمسينيات ومطلع الستينيات وتجسدت بصيغة مواقف وسلوكيات وجدت التعبير عن نفسها من خلال السقوط في مهاوي "التزييف"، على حساب "التنقية والتأصيل والترسيخ"، للقطعية باتجاه واضح ومحدد. على مستوى البسطاء ممن يدركون من خلال تجربتهم المباشرة حجم الفساد والترهل كما يرونه مفصلاً في مناطقهم أو فرصهم وفرص أبنائهم بالتقدم فإنهم يدعمون المشاركة لدعم نظام يعتقدون أنهم يأمنون جانبه على مستوى الحرية لممارسة طقوسهم الدينية والتعبير عن مشاعرهم المذهبية. على مستوى الأغلبية العددية للسكان فإنهم لا يقفون مع المشاركة، ولا يقفون مع المقاطعة أيضاً لأنهم يراوحون في حالة الـ "بين – بين". لا عجب إذن إذا ما جاءت نتيجة الانتخابات بذات الأسماء والجماعات والكتل التي استثمرت في حالة تزييف الوعي هذه على حساب دفع جمهور الناخبين ليكون صانعاً لحاضره ومصمماً لمستقبله، بحق.

يبقى أن الثقافة والمثقف لا ترتبط بأشخاص ومواقع وذوات معينين إذا ما تعامل المواطن بحس وطني ومسؤول مع ما يجري في مجتمعه. هناك المثقف الذي يصنعه الظرف الطارئ والوعي بالمصلحة الذاتية والجماعاتية. وهناك المثقف الذي يختار أن يضع حداً لحيرته وتردده ويتقدم ليختار بين هذا وذاك. وهناك النقابات والمنظمات التي كان يمكنها أن تلعب دوراً بناءً لو أنها اختارت طريق أقدم نقابتين مهنيتين في العراق هما نقابة الأطباء ونقابة المحامين ممن يخلو نظامهما الداخلي من فقرة تسمح بتلقي المعونات الحكومية. تعتمد هاتان النقابتان العريقتان على سياسة التمويل الذاتي من خلال استخدام اشتراكات الأعضاء السنوية والرسوم المفروضة على بعض النشاطات ومنها منح اجازات العمل والاستثمار في فعاليات معينة. ستتحرر النقابة في هذه الحالة من عبء الالتزام تجاه أي جهة يمكن أن تفرض عليها أو تتوقع دعماً أدبياً ومعنوياً يخل بأهدافها الجوهرية. وبذلك تتأهل للقيام بواجبها بطريقة المشاركة الواعية والمسؤولة. فإما دعوة وتعبئة على المشاركة الحرة والفعالة وإما مقاطعة معلنة وصريحة لا ريب فيها على الأقل من حيث الموقف الرسمي العام وليس التحكم بخيارات الأعضاء على المستوى الفردي. أما أولئك السلبيون الذين يتسترون بصمتهم أو لا أباليتهم ممن يتذمرون كثيراً، ويتحججون أكثر فعليهم تقبل النتائج التي تترتب على مواقفهم.

  كتب بتأريخ :  الأحد 01-06-2025     عدد القراء :  297       عدد التعليقات : 0