قليل من الكتّاب والعلماء والمفكرين من يلجأ الى التاريخ للاستفادة منه في تاسيس فكر أو دعم فكر أو نقض فكر ، كان ذلك قديما ، أمّا وقد تطورت مناهج البحث عن الحقيقة ، شخص التاريخ مرجعا معرفيا ، وليس فقط عرضا للوقائع والحوادث ، واصبح تاريخ الشيء جزء لا يتجزأ من غور اسراره واستشراف مستقبله ، حتى تجاوز موضوع الاستفادة من التاريخ مشروع الاتعاض إلى التأسيس والتكوين والاستشراف ، بل تنحت فكرة العظة من التاريخ كهدف من قراءة التاريخ لانها قد تنحرف به عن تشخيص الحقائق الموضوعية.
السيد حسين اسماعيل الصدر من روّاد الاستفادة من التاريخ في طرح أفكاره ومبادئه وفلسفته ، مراجعة لبعض مؤلفاته يكتشف شغف السيد في تصفح التاريخ بدقة ، لا لأجل معرفة الحدث التاريخي بل من أجل إجلاء الحقيقة وتجلية حولياتها باتجاه الحاضر والمستقبل .
في كتابه (الوطنية حدثة المفاهيم وأصالة القيم ) ضمن سلسلة المشروع الوطني، الجزء السابع نلتقي بفصل مميّز بعنوان (مبحث تاريخي ... قبس من أخلاق رسول الله ) .
ينطلق من بعض مواقف الرّسول لتعزيز نطريته في الاخلاق الاجتماعية ، وجوهو الفكرة إن الانسان الخلوق ( ذو طاقة ايجابية خلّاقة ) في ارساء اسس المجتمع المتكافل المتعاون والمتاسك .
علاقة الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم بامته منبع استلهام عظيم لتعزيز هذه الفكرة الجميلة ، ومن هنا يستشهد السيد حسين الصدر برواية الحسن عن أخلاق جده مع اهله والناس والطريق والجار والمسجد وكل أصناف الاجتماع ، والغاية هي تعزيز نظريته في دور ( الانسان الخلوق ) على صعيد خلق مجتمع طيب متوازن متماسك.
يستشهد بما يلي :
(قال الحسن: سألت أبي عن دخول رسول الله فقال: كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك، وكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزأه بين الناس فرد ذلك على العامة والخاصة لا يدخر عنهم شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بأدبه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي ويقول: « ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبت الله قدميه يوم القيامة) ص 110
وجوهر الاستشهاد يتلخص بالفرائد الجميلة الاتية ..
كان النبي الكريم يصرف جلّ إهتمامه لاهل الفضل من الناس ، وأهل العوز ، والمحتاجين ، يتعامل معهم بالرفق والمحبة ، لا يفرّق بين هذا وذاك إلّا لضرورة ، وبهذا يضرب النبي المثل الاعلى لـنظرية أو مشروع ( الانسان الخلوق ) ، حيث هذه الممارسات الطيبة من شأنها خلق مجتمع متكافل متعاف وشفاف ، وليس مجتمع الطبقية والمحسوبية والمنسوبية .
يلجأ السيد الصدر إلى اخلاق الرسول مع جلسائه كي يكمل ايضاحاته وإجلاءه لفكره في هذا المشروع ، فيذكر لنا هذه الثيمة الرائعة من سيرة المصطفى .
جاء عن النبي الكريم :
(، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا فاحش ولا عياب ولا مداح يتغافل عما لا يشتهي ولايؤيس منه ولا يحبب فيه قد ترك نفسه من ثلاث : المراء ، والإكثار ، ومالا يعنيه ل) ص111 .
فالشخصية الخلوقة ، أو الانسان الخلوق لا يتماهى مع المدح المبتذل ، ليّن العيكة ، طيب المحيّا ، لا يلتفت الى كثير المراء ، وبذلك يسد الطريق على النفاق ، ويحول بين أن يتحول المجلس إلى بيئة رياء وملق ونفاق ، والمجالس الطيبة تخلق أناسا طيبين ، والمجالس مدارس ما دامت اجواؤها مزدحمة بالفكر النير والموعظة الحسنة .
السيد الصدرلا يستفيد من هذه الوقائع والحقائق التاريخية بمنهجية وعظية تقليدية ، بل يدمجها في صلب نظريته الاخلاقية عن ( الانسان الخلوق ) .
الرفق والمزح المتبادل والفكاهة النزيهة من صلب معالم شخصية الانسان الخلوق ، من سيرته وفلسفته ..
يسأل الامام الصادق أحد تلاميذه :
(كيف مداعبة بعضكم لبعض ) ص 113
وفيما يكون الجواب :
(قليل ..) .
يرد عليه الصادق :
(... إنّ المداعبة من حسن الخُلق ...).
وليس المقصود بهذا الجواب السائل نفسه ، وإنما لطرح مفهوم اجتماعي نبيل ، في حين المداعبة لدى البعض مضيعة للوقت والعمر ، فإذا بها هنا اساس من اسس البناء لاجتماعي القويم .ص 113.