تشكل الانتخابات البرلمانية إحدى أهم الركائز في النظام الديمقراطي، فهي الوسيلة التي تعبر بها الشعوب عن إرادتها السياسية وتحدد من خلالها ملامح السياسات العامة والتوجهات المستقبلية لبلدانها ولا تقتصر أهميتها على مجرد اختيار نواب يمثلون المواطنين في البرلمان، بل تتعدى ذلك لتكون أداة حقيقية للتغيير، وضمانة لحقوق الأفراد، ومحرك رئيس للتنمية والاستقرار.
على هذا الأساس، فإن البرلمان، هو سلطة التشريع والرقابة في أي نظام ديمقراطي أو ما يسمى بالدولة المدنية التي تكفل حقوق المواطنين وترعاها، ووجود برلمان منتخب يعكس تطلعات الشعب وهمومه كما ويشكل أساس الحكم. ومن خلال الانتخابات البرلمانية، يمنح المواطن فرصة للمشاركة الفعلية في إدارة شؤون بلده، مما يعزز الإحساس بالمسؤولية والانتماء الوطني. كما تتيح الانتخابات للمجتمعات التعبير عن تنوعها السياسي والفكري، وتمثل آلية سلمية لتداول السلطة وتحقيق التوازن بين مختلف القوى، وهو ما يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي. ودون انتخابات نزيهة وشفافة، تفتح الأبواب أمام التسلط والاستبداد، وتغلق نوافذ الإصلاح والتغيير.
ومن المعايير التي يجب أن تبنى عليها الانتخابات البرلمانية لكي تحقق أهدافها، ونحن نتحدث هنا عن حال الالإنتخابات في العراق الذي مر منذ سقوط نظام صدام بإجراء عدة انتخابات برلمانية لم تتحقق في أي واحدة منها معايير دستورية. أو تجرى وفق مجموعة معايير قانونية تضمن نزاهتها وفعاليتها، ومن أهمها: الشفافية، التي بموجبها أن تكون جميع مراحل العملية الانتخابية واضحة ومفتوحة أمام الرأي العام ووسائل الإعلام، بما في ذلك عمليات التصويت والفرز وإعلان النتائج. أو يتمتع الناخبون بحقهم الكامل في الاختيار دون ضغوط أو إكراه، وأن يتمكن المرشحون من خوض المنافسة بحرية وعدالة.
ذلك يتطلب: وجود هيئة انتخابية "نزيهة" مستقلة ومحايدة، قادرة على تنظيم الانتخابات ومراقبتها بكفاءة، وضمان عدم التلاعب أو التزوير. كما يجب أن تشمل العملية الانتخابية جميع الفئات دون استثناء، مع إزالة كل العوائق القانونية أو الإدارية التي قد تمنع مشاركة المرأة، الشباب، والأقليات. ومن الضروري ضمان تكافؤ الفرص بين جميع المرشحين، وتوفير بيئة قانونية وإعلامية متوازنة تسمح للجميع بإيصال رسائلهم وبرامجهم إلى الناخبين.
الانتخابات البرلمانية، ليست مجرد استحقاق سياسي دوري، بل هي مناسبة لتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن ومن هنا، فإن العمل على ضمان نزاهتها وفعاليتها هو مسؤولية جماعية تقع على عاتق الدولة والمجتمع المدني ووسائل الإعلام والمواطنين أنفسهم. فبقدر ما تكون الانتخابات نزيهة وشفافة، بقدر ما يكون الوطن أقوى، والمستقبل أكثر إشراقا.
إن ما يضفي على الانتخابات معناها الحقيقي، ونحن نتحدث هنا، عن نظام سياسي في بلد اسمه العراق يتم فيه احتكار قوى وأحزاب نافذة الانتخابات كطريق للتغيير باستخدام قنوات غير مشروعة. ليس مجرد تنظيمها، بل الكيفية التي تجرى بها، والمبادئ التي تحكمها، والضمانات التي تحيط بها. فالانتخابات ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الحكم الرشيد والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة.
من هنا لا بد من سؤال مهم جدا، ويمس جوهر العلاقة بين السلطة والشعب، هل تستطيع المعارضة الانتخابية إيقاظ "الأغلبية الصامتة" من سباتها العميق للمشاركة الإيجابية بالانتخابات لصالحها، حتى لو كانت محدودة؟. أو، تفعيل كيانات سياسية بديلة تنمو ببطء ولكن بثقة داخل المجتمع؟، مثل النقابات المستقلة، الاتحادات الطلابية، والمنتديات الفكرية والثقافية. هذه الحركات، وإن كانت غير مباشرة، تشكل أرضية صلبة لأي تغيير لاحق.
بالمقابل من الناحية الموضوعية، حين تحتكر السلطة الانتخابات وتزور نتائجها، فإنها تنقلب على مبدأ السيادة الشعبية، وتحول العملية الديمقراطية إلى أداة شكلية لتكريس حكم "شمولي" بأساليب غير قانونية بدل تغييره أو مساءلته. في مثل هذه الحالات، لا تعود الانتخابات وسيلة للتقدم، بل تصبح عائقا أمام التغيير الحقيقي. في هذه الحال، لا بد من استحداث أساليب جادة لرفع الوعي السياسي الشعبي والتنظيم المدني لدى المواطنين. حيث يجب أن يدرك الناس (الأغلبية الصامتة) أن مشاركتهم لا تقتصر على التصويت، بل تشمل مراقبة العملية الانتخابية بكاملها، من التسجيل إلى الفرز. وهذا يتطلب بناء مجتمع مدني قوي، يضم منظمات حقوقية، ومراقبين، وأحزاب مستقلة قادرة على توثيق الانتهاكات وفضحها. ولعل اللجوء إلى الرقابة الدولية المستقلة لمراقبة الانتخابات أن تساعد في توثيق التلاعب وتوفير غطاء للمعارضة الانتخابية. ويفترض على الإعلام الحر والمستقل الذي هو خط الدفاع الأول ضد التزوير أن يلعب دور متميز لكشف التزييف وأساليب التضليل ونقل الحقيقة داخل البلاد وللرأي العام الدولي الذي بإمكانه أن يضع السلطة تحت ضغط داخلي وخارجي.
خلاصة القول: الانتخابات المزورة أخطر من غياب الانتخابات، لأنها تخدع الناس وتفرغ الديمقراطية من مضمونها. ومواجهتها تتطلب صبرا، شجاعة، وتنظيما واسع النطاق. الطريق قد يكون طويلا، لكنه يبدأ دائما بخطوة أولى: إن يعرف المواطن أنه يستحق أن يسمع صوته، وأنه ليس مجرد رقم في مسرحية سياسية... التاريخ أثبت أن الشعوب التي تمسكت بحقها في تقرير مصيرها، وواجهت الاستبداد بصبر وتنظيم، نجحت في النهاية بفرض التغيير بصياغة متزنة.