الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
جزيئاتٌ تتصارعُ في أدمغة البشر

يبدو تاريخُ علم النفس النظامي -الذي بدأ مع فرويد- أقرب لحكايات الجنّيات والسّحَرَة. التقسيم الثلاثي الفرويدي للأنا والأنا العليا والأنا السفلى (الليبيدو أو الطاقة الجنسية) يبدو شيئاً شبيهاً بحدّوتة تتناقلها الجدّات عند مواقد النار في ليالي الشتاء الطويلة. أما العقدة الأوديبية والتفسير الفرويدي للهستيريا والعديد من الموضوعات الكبرى في الحياة فلا تعدو كونهاآراء كيفية تسندها الهالة الكبرى التي ارتسمت حول شخصية فرويد. أهمّ ما يتعلّمه المرء من الدراسة الفاحصة والهادئة لتاريخ علم النفس العام والسريري هو الصيرورة البطيئة التي تحوّلت خلالها آراؤنا من مواضعات كيفية إلى مباحث اختبارية تقف خلفها تشخيصاتٌ محدّدة. أظنّ أنّ دراسة دور النواقل العصبية Neurotransmitters في تحديد الإضطرابات العصبية والنفسية والذهانية كانت الإنجاز الأعظم في تاريخ علم النفس.

أعتقدُ أنّ أسماء النواقل العصبية لم تعُدْ خافية أو مطمورة تحت ركام الدراسات البحثية المتخصصة بل صارت أقرب للمشاعية الفكرية العامة بسبب تواتر إستخدامها في الفضاء الثقافي العام: كتابٌ مثلاً عنوانه (أمّة الدوبامين)، أو فلم سينمائي يتّخذ من أحد النواقل العصبية عنواناً له. لن يخفى علينا أنّ إسمَيْ (الدوبامين) و(السيروتونين) هما الأكثر شيوعاً بين النواقل العصبية. قلّما نتذكّرُ (الأوكسيتوكسين) أو (الأندورفين) مثلاً. قد يكون السبب هو إقترانُ الدوبامين والسيروتونين بألوان التجربة البشرية وما يترتّب عليها من مفاعيل فلسفية بأكثر مما يفعل سواهما، وكونُ هذا الإقتران أكثر مشاعية بين البشر على إختلاف أجناسهم العرقية وألوانهم الفكرية وخرائطهم الجينية.

الدوبامين قرينُ اللذة الحسّية الفورية المباشرة. أظنُّ أنّ (الكاهي والقيمر) و(الباجة والمشويات) من أكثر معزّزات إفراز الدوبامين لدى كثير من العراقيين، وكذا يفعلُ السُكّرُ و اصناف الحلويات والمعجنات. ربّما من المثير إستذكارُ أنّ السُكّرَ الذي صار أحد البضائع التي أتخمت جيوب أباطرة التجارة الكولونيالية بالمال كان مادة غير شائعة على موائد الأرستقراطيين بل على موائد الفقراء. يعمل السُكّرُ على تحفيز إفراز الدوبامين في الدماغ وبالتالي يقود إلى الشعور الفوري بالنشوة والإسترخاء، وهكذا ظلّ السُكّرُ على مدى عقود عديدة مادّة سحرية يلجأ لها فقراء الحال لتعزيز مناسيب النشوة في عقولهم. لن يفكّر معظمنا في مدى التخريب الذي يسبّبه السكّرُ في أبدانهم وعقولهم طمعاً في السعادة الفورية التي يجتنونها منه. هذا ما تفعله تماماً المواد المخدّرة أيضاً.

الإدمانُ أهمّ مشكلة ترتبط مع معزّزات الدوبامين في حياتنا. ستقصرُ مع الزمن فترات النشوة، وهذا ما سيدفعُ المرء لزيادة مناسيب وتراكيز المادة المسببة للإنتشاء الدوباميني، وسيدخل المرء حينها في دوّامة بلا نهايات من السعي الحثيث وراء اللذائذ العقلية المصطنعة. شاعت في ستينات القرن الماضي حبوب أسموها تجارياً بغية الترويج لها (حبوب السعادة). وفي السياق ذاته وفي خضمّ الثورة الشبابية في ستينات القرن الماضي ذاتها المحتدمة بكلّ التفجّرات الثقافية دعا صانع عقار المسكالين إلى إعتماده عنصراً في تخليق الرؤى الروحية المتعالية والاستبصارات العقلية المتفرّدة، ثمّ انتهى الأمر فشلاً ذريعاً بسبب المشكلة الإدمانية المتصلة به. ربما كان الإدمان جرس إنذارٍ لنا في لاجدوى محاولة تخليق السعادة الإصطناعية عبر محفّزات مادية محدّدة.

السيروتونين، وعلى العكس من الدوبامين، يقترنُ بالسعادة الهادئة، غير الفورية، والتي لا تحفّزها جزيئات مادية. الأهمّ من هذا أنّه لا يقترن بالمشكلات الإدمانية. على سبيل المثال، عندما ينغمسُ المرء بشغف في مشروع بحثي طويل الأجل يتطلّبُ مشقّة ومكابدة فإنّ دماغه يصبح ساحة يتسيّدها السيروتونين. القراءة النظامية للكتب البعيدة عن القراءات العابرة والسياحية هي ميدان إختبار لسطوة السيروتونين في إعادة ضبط موازين حياتنا ونقلها من ميدان اللذات الفورية اللحظية نحو السعادة الهادئة التي تعيدُ تشكيل مفاهيمنا وسلوكياتنا ورؤيتنا للحياة.

عديدةٌ هي الموضوعات والمساءلات التي يمكن طرحُها في هذا الشأن. أوّلها هي موضوعة الثنائية (دوبامين /سيروتونين): كم من هذا وكم من ذاك يصلح لحياة متوازنة؟ لا يمكنُ بالطبع لأسباب عملية بلوغ مرتبة الكائن الدوباميني الخالص او السيروتونيني الخالص. لا بدّ من مزاوجة بين هذا وذاك؛ ولكن بكم من النسبة المئوية؟ نصفٌ بنصف مثلاً؟ لن يقدّم أحد لك جواباً جاهزاً. هذا أمرٌ أنت من تصنعه بذاتك وإن كانت الخبرة تقول لنا أنّ المعيار يبدأ بميل طبيعي في مراحل النشأة الأولى نحو تعزيز مناسيب الدوبامين ثمّ ينقلبُ شيئاً فشيئاً نحو تفضيل السيروتونين مع نمو الفرد وزيادة خبراته. من يشأ البقاء كائناً دوبامينياُ خالصاُ هو من لم يتحصّل من الخبرات والكفاءات والمزايا الفكرية والعملية ما يؤهّله لإحداث إنتقالة نوعية في حياته.

يمكنُ أن نتساءل أيضاً: هل هي الحتمية الجينية وحدها التي تحدّدُ آليات أنماطنا السلوكية وميلنا للتوجّهات الإدمانية؟ يبدو ما يحصل في الواقع وكأنّه ينفي هذه الحتمية. ليس كلّ البشر مدفوعين إندفاعاً ميكانيكياً نحو الغرق في بحر الدوبامين. لا يستطيبُ الجميع شرب الشاي مع كمية كبيرة من السّكّر، ولسنا جميعاً ممّن لا يلتذّون بالطعام إلّا عندما يكون همبورغر أو كنتاكي بحجم مضاعف مع عبوة كبيرة من المياه الغازية.

لا يخفى علينا أنّ نمط حياتنا المعاصرة بات يُعلي شأن محفّزات الدوبامين حتّى من غير عناصر مادية شاخصة. الإنترنت هو الملعب الإختباري لهذه المعركة الدوبامينية. السائح العادي في مواقع التواصل الإجتماعي يتنقّلُ قليلاً في هذه المواقع ثم يغادر؛ أمّا من يبتغي (الطشّة) أو التريند فسيقاتلُ حتى طواحين الهواء بغية الدخول في معركة تعزّز مناسيب الدوبامين في دماغه. لن يهمّه كثيراً حجمُ الضوضاء والكراهية اللتيْن ينشرهما بين البشر. لن تهدأ روحه المتعطّشة للدوبامين ولذّاته الفورية إلّا باحتدام المناكفات الصراعية: كلّما احتدّت مناسيب الصراع ووسائله كان هذا فعلاً أمضى في إطالة أمد استرخائه ولو إلى حين.

نبدو كعراقيين كائنات مغالية في طلب التعزيز الدوباميني كلّ آن. قد تكون اللذّة المقترنة بالتمظهرات الفلكلورية لسلوكنا والصوت العالي والخشونة والقسوة في التعامل مظاهر لإختلال بنيوي في آلية افراز الدوبامين. سيفكّرُ بعضنا: ولماذا لا نلجأ لمثبّطات الدوبامين ومعزّزات السيروتونين في أدمغتنا؟ لن ينفع هذا الحلّ إلّا في حالات مرضية محدودة ومشخّصة. الحياة البشرية مصمّمة على أساس أن لا تكون لعبة مجانية نحوز فيها رغباتنا متى ما استطعنا ذلك. لا بدّ من تفعيل جهودنا الخاصة بدلاً من التعكّز على الحلول المجانية التي نُحَيّدُ فيها إراداتنا وقدراتنا الذهنية والجسدية.

لعلّ كثيرين منّا يفضّلون الأطروحات الفرويدية ويرغبون في المكوث بمنطقة الراحة فيها لكونها اقرب للحكايات الأدبية الأسطورية. يستطيعون أن يفعلوا ما يرغبون فيه وما يجدون راحتهم تحت ظلاله الوارفة؛ لكنّ هذا الأمر لن يلغي حقيقة الصراع في معركة يحتدم أوارها بين جزيئات لا مرئية في أدمغتنا.

  كتب بتأريخ :  الأحد 22-06-2025     عدد القراء :  75       عدد التعليقات : 0