الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
طهران.. ما أشبه اليوم بالبارحة

تذكرُّني العاصمة الإيرانية طهران، هذه الأيام، حيث تبدو مهجورة وخالية من سكانها، بالأيام التي عشت بها في المدينة الواسعة، أبان الحرب العراقية الإيرانية. ويتسلل إلى نفسي شعور غريب، هو مزيج من الرهبة والحزن، وأنا أرى أن الشوارع التي كانت تضج بالحياة، باتت صامتة، وكأن الزمن توقف عند لحظة لم يعد بعدها أحد. فالنوافذ مغلقة، والأبواب موصدة، والمقاهي التي كانت تعج بالضحك والأحاديث، صارت مجرد هياكل من خشب وزجاج.

وفي تلك الأيام في أواسط الثمانينات، و"بحلول المساء كان صوت صافرات الإنذار  يدوّي مزعجا والطائرات الحربية العراقية تَغير  في سماء طهران تدك أهدافها وتحاول أن تفرغ حمولتها من القذائف والصواريخ على مناطق مرصودة. إلا أنها كانت أحيانا تخطئ أهدافها فتضرب مناطق سكنية مأهولة وتصيبها فتقتل ساكنيها و تلحق بهم أضرارا مادية، أو تصيب أهدافا قريبة من تلك الأهداف فتحطم زجاج البيوت والمحال التجارية. فكان الناس يهرعون إلى خارج بيوتهم أو يختبئون في أقباء منازلهم، وتضحى الشوارع مقفرة ولا أحد يهيم بين طرقات المدينة.

لهذا كان الخوف والهلع يدبّ في نفوس سكان العاصمة، وما إن تغيب الشمس وقبل أن يحل المساء حتى تراهم بالآلاف وجموعا يتسارعون في الخروج من بيوتهم ويستقلون سياراتهم ويحملون أمتعتهم القليلة، تاركين ممتلكاتهم ومبتعدين عن ضجيج العاصمة باتجاه الضواحي والمناطق غير  الآهلة بالسكان بحثا عن الأمن والأمان وفي منأى عن القصف وليالي الرعب.

وكانت بعض تلك العائلات، وخاصة المسيحية منها، تتسرب من بيوتاتها قبل أن يحل المساء صوب طاووسية، وهي بلدة صغيرة قريبة من طهران تابعة لمدينة كرج وفيها بساتين وحقول ومزارع. وفي الصباح تعود إلى بيوتها وأماكن عملها.

وقد تحفزنا نحن أن نلتجئ إلى طاووسية أيضا حينما وجدنا أن أحد المعارف يسكن فيها ولديه منزل ريفي (فيلا) تحيط به مساحة خضراء، فذهبنا جميعا عدا والد خطيبتي الذي كان يمكث في البيت خوفا من السرقات التي كانت تطول البيوت الفارغة من ساكنيها آنذاك ولأنه كان ملزما بأن يباشر عمله في الصباح الباكر قبل شروق الشمس.

 وفي طاووسية كنَّا نقضي ساعات نتبادل مع الأصدقاء والمعارف أخبار الحرب الدائرة، وعندما يجنّ الليل تماما، كنَّا نفرش البطانيات والملاءات على الحصى الذي يكسو الرصيف ونستلقي كبارا  وصغارا وأطفالا ويترك الكهول عصيّهم التي يتوكأون عليها جانبا، وننكمش جميعنا متقاربين على الأرض.

وكنت في دجنة الليل وقبل أن ينام الجميع أو ثمة مَن يتحدث بصوت مكتوم وخفيض، أستمع عبر جهاز  الترانزستور الصغير  الذي أحمله معي في تنقلاتي، إلى الإذاعات التي تتنافس في نقل أخبار  الحرب الملتهبة بين العراق وإيران وتبث المستجدات بما فيها الخسائر  التي تلحقها الطائرات العراقية الغائرة في سماء طهران بأرواح الناس والأضرار  البالغة في البنى التحتية.

كنَّا نقضي ليلتنا في العراء دون كسوة أو نتلحف بشرشف خفيف، فالطقس لم يكن باردا في ذلك الوقت حيث تفيض رائحة الصيف. وعندما نحدِّق في السماء المرصعة بالنجوم التي تتلألأ في تلك العتمة، يتناهى إلى سمعنا أزيز الطائرات النفاذة وهي تشق طريقها صوب العاصمة. كان صوتا مرعبا يعلو حينا وينخفض حينا آخر.

وفي الغداة ننهض بتثاقل ونحن نتثاءب وعظامنا تئن ويودع أحدنا الآخر  على أمل أن نلتقي في مساء ذات اليوم فنستقل سياراتنا المركونة على طرفي الرصيف، ثم نعود إلى بيوتاتنا ويذهب كلٌ إلى أماكن عمله، وهكذا دواليك. فقد كان هذا حالنا كل يوم.

في حين، كانت طهران في النهار مزدحمة وخانقة ومتشحة بالسواد وهي تدب بالحركة وتعج بالباعة المتجولين وتجوب السيارات في شوارعها حاملة توابيت القتلى. وتجد أمام الحوانيت والأسواق طوابير الناس المنتظرين بصبر  عجيب دورهم وهم يحملون في أيديهم كوبونات الأرزاق التي توزعها عليهم الحكومة مدونة فيها حصصهم من المواد الغذائية الأساسية. وعلى نواصي الشوارع وأمام المحالّ يقف الشحاذون وهم يسألونك بصوت حزين مظلوم فيه الكثير  من الألم عن إحسان.

وكانت تجوب في أغلب شوارع العاصمة مفارز (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) خاصة في شارع (ولي عصر) شارع التسوق المعروف حيث تمتلئ محالّه الراقية بالبضائع والمتسوقين وتعرض من على واجهاتها  الدمى وقد توشحت بالحجاب إلى جانب الملابس الزاهية والعطور. وإن كانت خطيبتي التي أرافقها أحيانا إلى هناك تأنف من البهرجة والتصنع وتكره التبرج ومساحيق التجميل ولا تتزين بهم إلا لماماً وتعد بريق الذهب عاريا.

الحجاب الذي كان الشاه رضا البهلوي قد حظره في أوائل الثلاثينات من القرن الفائت، وقابل الاحتجاجات بالعنف وارتكب مجزرة مسجد كوهرشاد الشهيرة ضد مَن طالبوا بفك الحظر، إلا أنه بعد مجيء الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، عاد الحجاب إلى الواجهة مجددا، وصدرت تعليمات من قائد الثورة آية الله الخميني بضرورة أن ترتدي النساء الحجاب الشرعي خارج بيوتهن، والنساء بتن يحاسبن ويعاقبن بالسجن والغرامات المالية والجلد إذا نزعن الحجاب أو تمردن عليه، وهي العقوبة التي تمارس حتى هذه اللحظة في إيران.

أما في الليل فقد كانت طهران تبدو مهجورة ومخيفة ولا مكان فيها للزحام، فقد كان الناس يواجهون الحياة بكل عذاباتها.  كان اللون الرمادي يملأ سماء طهران حيث علقت على البنايات الكئيبة يافطات تأبينية سوداء، وتنتشر صور الإمام الخميني وصور الشهداء في كل مكان.

كنت أشعر أن الحياة في طهران لا تطاق والزمن فيها لا ينتهي وتعج بالاشباح الهائمة، وأن أرواح الناس جريحة والقتلى يتناسخون، خاصة عندما كنَّا نضطر  إلى إغلاق الأبواب والشبابيك بإحكام وأشعر أنني مزروع بالهواجس."*

أما اليوم، حيث الحرب الإيرانية الإسرائيلية مستعرة، يمر نسيم خفيف بين الأبنية في طهران، فيصدر صفيراً حزيناً، كأنه نواحُ الذاكرة. الأشجار على الأرصفة تهتز بلا أحد يلاحظ، واللوحات الإعلانية تبهت ببطء، وقد غابت عنها العيون، حتى القطط التي كانت تتسلل بين الأزقة، باتت تتحرك بحذر، وكأنها تخشى أن تكسر ذلك الصمت المقدَّس.

*من كتابي (إيفين.. حفرٌ في الذاكرة) الصادر عن دار الرواق وأهوار للنشر والتوزيع- بغداد

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 24-06-2025     عدد القراء :  93       عدد التعليقات : 0