أفكّرُ أحياناً في مَنْ قضى عشرين سنة أو خمساً وعشرين سنة في السجن ثمّ خرج منه إلى حيث الحرية الكاملة. كيف سيرى العالم؟ أو بعبارة أكثر دقّة: ما الذي سيعنيه وجودُهُ في هذا العالم؟ سيحدّثُ نفسه كل صباح: "ما لي أحسُّ أنّني روحٌ غريب في الحياة؟". ستكون المأساة أضعافاً لو ثبت أنّ مثل هذا الشخص قضى سنوات سجنه بخطأ قانوني كما نسمع في أحايين كثيرة. ماذا سيفيده التعويضُ المالي؟ ليس بوسعك تعويض زمنك المقتول ولو بمال الدنيا. ما أتحدّثُ عنه ليس وقائع إفتراضية. إنّه وقائع حقيقية حصلت وستحصل؛ بل أنّها تحصل معنا جميعاً مثلما تحصل مع من يغادر السجن بعد عشرين سنة مع فارق شدّة الوقع الدرامي وتباين مكان الواقعة.
لم تغفل السينما مثل هذه التفاصيل المثيرة فجعلت منها أفلاماً مميزة. أذكر منها فلماً قديماً يروي قصة شخص أثرى بفعل مخالف للقانون ممّا أدى إلى الحكم عليه بسنوات طويلة يقضيها في السجن. صار السجن بيته الحقيقي، وقد رتّب فيه مجتمعاً مصمّماً بهندسته الخاصة، محكوماً بتراتبية صارمة لها رئيس ومرؤوسون كان هو أحدهم ولم يختر أن يكون الرئيس لأنّه كان يعاني من نزوع مازوخي عنيف. كان يستطيب التعنيف والضرب كلّ يوم من قبل رئيسه على مرأى ومسمع مجتمع السجن الذي صار بمثابة يوتوبياه التي لا يعرف العيش خارجها ولا يستطيب لها بديلاً. عندما أنهى الرجل محكوميته وغادر السجن فشل في العيش بطريقة طبيعية أو أقرب على نحو ما من العيش الطبيعي؛ فعمل على خلق مجتمع شبيه بمجتمع السجن في مزرعة من أملاكه الكثيرة. نقل تجربة السجن بكلّ شخوصها وعلاقاتها من داخل السجن إلى قلب المدينة التي يعيش فيها.
نحنُ لا نختلف كثيراً عن هذا الرجل. كلٌّ منّا له منطقة راحته Comfort Zone التي لا يريدُ مغادرتها، ولو حصل وغادرها لسببٍ ما فسيكون هذا إيذاناً بطور إكتئابي في الحياة. هل يمكنُ أن نسمّى هذه الحالة بمتلازمة "المكوث في منطقة الراحة"؟ ربّما. يبدو أنّ حياتنا المشرقية تشجّعُ على ترسيخ مفهوم هذا المكوث المتأبّد في منطقة الراحة واعتباره مزيّة مرغوبة.
لماذا نرغب المكوث في منطقة الراحة؟ أسباب عديدة تقف وراء هذا المكوث وتشجّعُ عليه. أوّلها هو التعوّد Habituation المُفضي إلى الكسل والإسترخاء واستجلاب الإمتيازات. لندققْ مثلاً في نسقنا التعليمي. هل فكّرنا بأمثولة (إتعبْ حتى تلعب). إتعبْ وأنت صغير حتى تستأنس بثمرات تعبك عندما تكبر. التعليم هنا يبدو كجائزة وليس ميزة تطوّرية. قد تبدو العبارة مسوّغة في سياقها العام؛ لكنّها تستبطنُ معنى مضمراً مفاده إتعبْ وأنت صغير حتى تبلغ منطقة راحتك بعد حين، وحينها ستنفتح لك أبوابُ الدنيا. بهذا المعنى تكون الشهادة الدراسية على اختلاف أشكالها تذكرة مرور إلى منطقة الراحة. قارنوا هذا مع عبارة دأب (بل غيتس) على تكرارها أمام مسامع الموظّفين الجدد لديه. يقول لهم:"إياك أن تتصوّر أنّ شهادة الدكتوراه أو الماجستير أو أي شهادة سواها تحملها من هارفرد أو MIT كفيلة وحدها بأن تجعلك تنال منّي مرتّباً سنوياً يبلغ مائة ألف دولار". إنّها تذكرة لهم بأنْ لا تفكّروا بمنطق الإسترخاء اللذيذ في مايكروسوفت مدفوعين بتفوّقكم المفترض حسب شهاداتكم. ثمّة عمل وإنجاز محسوب بدقّة يُقاسُ بموجبه أداء الشركة، وليست شهاداتكم واحدة من عناصر هذا القياس.
ثمّ هناك الشعور بتعظيم قدراتنا وأسلحتنا الذهنية والنفسية عندما نعمل في منطقة راحتنا. الأمر مكافئ تماماً للشعور بخسارة هذه القدرات عندما نغادر منطقة الراحة. إنّه شعور نفسي مخادع. التعليم الحقيقي (لا أعني التعليم الكلاسيكي بل تحصيل الخبرات الحقيقية) يحصل متى ما غادرنا منطقة الراحة. لا تأتي الخبرات الحقيقية من غير مجالدة ومجاهدة وبذل مال ووقت كبيرين. أفضلُ مثال على هذا هو برامجنا الحوارية التلفازية. ترى فيها المقدّم وهو يتبعُ خوارزمية أدائية باتت باهتة من كثرة تكرارها. لن يشعر يوماً بأدائه البليد وحصيلته الفكرية الخاوية طالما ظلّت ألوف الدولارات تنهمر عليه من قناة ترى في مؤشّرات المشاهدة مقياسها الوحيد.
ثمّ هناك التصلّب الفكري وتوهّمُ المعرفة. إنّهما عَرَضان من أخطر أعراض متلازمة المكوث في منطقة الراحة. منطقة الراحة هنا تمثلُ حيّزاً تغيب فيه المقاييس المرجعية التي تكشف حالتنا. سيكون المرء فيها أقرب لمرجعية ذاتية لشخصه، وليس أكثر ضلالةً من هذه المرجعية الذاتية. سينتفخ المرء تيهاً وهو يمطُّ ذراعيه وسط ملاذه الموهوم، ثمّ مع الأيّام تستحيل هذه المرجعية الذاتية أصولية ضاربة مترسّخة وبخاصّة إذا ما ترافقت مع دعم يأتي من جانب من تخدمه مثلُ هذه الأصولية.
هل ثمّة من علاج لهذه المتلازمة؟ العلاج يمكن أن يأتي مترافقاً مع الإعتراف المسبّق بعدم الرغبة في مواصلة العيش وسط هذه الفقاعة الصغيرة، والرغبة الجادّة في تفجيرها والإنطلاق نحو عالم أكثر رحابة.
الأمر يتطلبُ مشقة كبرى. ليس هيّناً أن يتخلّى المرء عن أسلحته الثقافية المفترضة لكي يكون مكشوفاً أمام حقيقته العارية. وحدهم الشجعان من يفعلون هذا رغم تكاليفه الباهضة.
يمكن أن تكون الكورسات الدراسية المجانية مثلاً وسيلة في كسر أصوليتنا الثقافية المتكلّسة. لنتعلّم التواضع والدراسة الجادة كما أيّ تلميذ مطالب بتحضير وأداء واجب محدّد له سقف زمني، وخوض إمتحانات محدّدة. هذه الكورسات المجانية هي بروفة تمهيدية لشكل التعليم القادم. ستتعلّم طبقاً لقدراتك وشغفك وزمنك، ولن تكون مضطراً للدخول في مصنع تعليب جامعي كما يحصل اليوم. سيتطلّبُ الأمر شجاعة إستثنائية أن تغادر معجمك المفاهيمي ولغتك المتخشّبة وملاعباتك اللغوية التراثية التي لطالما رأيت فيها إمتيازاً حصرياً لك وحدك. ليس أسهل على المرء من خداع نفسه بمعرفة موهومة.
لماذا يستحقُّ الأمر عبء تحطيم القشرة المتصلّبة لملاذاتنا الفردية الكسولة؟ فكّرْ معي الآن في تاريخك الشخصي وستجد حقيقة غريبة ومثيرة في الوقت ذاته. ستكتشفُ أنّ التواريخ المفصلية في حياتك حصلت كلّما حاولت إلتماس تغيير حقيقي في حياتك (بمعنى مغادرة الملاذ الحمائي لمنطقة راحتك) سواءٌ كان هذا التغيير قسرياً أم بفعل التطور البيولوجي أم بفعل المتغيرات المعيشية. الأفضل أن يكون برغبة ذاتية. تخيلْ معي لو عشت حياتك كلها من غير تلك الوقائع المفصلية، ما الشكل الذي كانت ستتخذه حياتك؟ أوقنُ أنّك ستندم كثيراً على حياتك التي ضاعت هباءً.
ملاذاتنا الآمنة تدعونا طول الوقت للمكوث فيها حيث الأمان والراحة والأوهام المغوية بقدراتنا الهائلة المخادعة؛ لكنّ الخروج من تلك الملاذات يَعِدُنا بغوايات أكبر لم نعهدها من قبلُ، وأوّلُ تلك الغوايات هي تعلّم النظر إلى كياناتنا المجردة وعقولنا الكسولة وتعلّم فضيلة التواضع الحقيقي بدلاً من إدمان النظر في أجساد وعقول الآخرين وممارسة دور (غورو) ثقافي عليهم في سياق لعبة مخادعة لا ينتج عنها سوى تكريس الوهم.
المدى