كان لجماعة الفلاسفة الجدد التي اسسها برنارد ليفي وفلاسفة ما بعد الحداثة دور سلبي في تراجع اليسار، خاصة انهم خرجوا من معطف الماركسية ليشكلوا "يسارا"جديدا مما اكسبهم مشروعية فكرية من قبل بعض اليساريين.
لست بصدد عرض النقد اللاذع لفلسفة ما بعد الحداثة من قبل إعلام اليسار كدافيد هارفي ومارك فيشر الماركسيين او تشومسكي الاشتراكي الاناركي، بل خلاصة (مع القليل من الاضافات التي وضعتها بين أقواس للتوضيح دون ان تغير المضمون العام) لتقرير ال سي آي اي الذي رفعت عنه السرية عام، والمعنون فرنسا: انشقاق اليسار، والذي يحلل بابتهاج ما حققه فلاسفة ما بعد الحداثة في مجال صناعة راي عام ينزع لمعاداة الماركسية وزيادة تأييد السياسة الأمريكية وتوجيه الميل الشعبي لتفضيل النظام الراسمالي. أرجو ان لا يفهم الموضوع على انه محض تجريد خالص ينحصر في دائرة الفلسفة بعيدا عن الواقع الملموس، فلو كان الأمر كذلك لما احتفت المخابرات الامريكية بما حققه فلاسفة ما بعد الحداثة. (وسوف يكون المقال القادم عن اختراق مفاهيم وافكار ما بعد الحداثة للفضاء الثقافي العربي عموما والعراقي خصوصا، بعد ٢٠٠٣ لاتساقها مع قيم وافكار اللبرالية الجديدة.)
يبدأ تقرير السي اي اي بالقول إن دور الفلاسفة في فرنسا على مر التاريخ، كان ذا تاثير بالغ في صناعة الراي محليا وعالميا، ولا ينحصر دورهم كما في أمريكا وأوروبا على ذوي الاختصاص او المهتمين بالفلسفه فقط، فقد انقسم المجتمع الفرنسي قديما ومن ثم العالم أجمع، مع انقسام الفلاسفة الى يسار (روسو. مونتسكيو، ديدرو،) ويمين (جوزيف دي مايسترا، تشارلز ماوراس، بونالد) وكان الصراع في الأفكار بين الطرفين شبه متكافئ آنذاك، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية حيث أصبح اليسار وبالاخص الفكر الماركسي هو الاكبر تاثيرا على المجتمع، لدوره في مقاومة النازية ولمواقفه الوطنية، وتراجع اليمين ضمن خط بياني حاد لفقده مصداقيته بسبب تخاذله ودعمه للفاشية علنا او سرا.
واستمرت مكانة اليسار في المجتمع حتى بروز فلاسفة ما بعد الحداثة كرد فعل لما تكشف من جرائم الحقبة الستالينية، (بالحقيقة فلسفة ما بعد الحداثة كانت كرد فعل لمآسي الحرب العالمية الثانية بشكل اساسي، اذ ألقى اللوم على تقديس العقل الاداتي من قبل مفكري الحداثة والتنوير). هؤلاء الفلاسفة لم يتخلوا عن الماركسية فحسب بل شنوا حملات مكثفة لتعبئة الشباب ضدها وضد الاتحاد السوفيتي، وقد بذلوا جهودا حثيثة لنشر افكارا ومفاهيم نقيضة للفكر الماركسي، (كرفض مايسمونه السرديات الكبرى بقصد دحض المادية التاريخية، وانكار سيرورة التطور التاريخي للمجتمعات، والنسبية المطلقة للحقيقة وقيم الاخلاق، ومن مخرجات فلسفتهم ايضا محورية الفرد كذات مستقلة مما يعزز الفردانية، وانكار وجود هوية جماعية، وتجزئة الصراعات الى صراع حقوق لهويات فرعية ككيانات مستقلة متشظية على اعتبار ان الواقع نفسه بمنظورهم متشظ وغير متسق ...الخ)، ويشير تقرير ال سي اي اي ان الجامعات والصحف والقنوات التلفزيونية قد شرعت ابوابها بشكل يومي لنشر هذه الافكار من خلال لقاءات وحوارات ومحاضرات، وخاصة بعد احداث ثورة الطلبة ١٩٦٨م، وقد صرح دوبريه ان هؤلاء الفلاسفة قد تحولوا الى نجوم تلفزيون استعراضية، ويذكر التقرير ان هؤلاء المفكرين: فوكو، برنارد ليفي وليوتارد وغيرهم في فترة الثمانينات قد شنوا حملة عداء وهجوما مستمرا ضد حكومة متيران وقرروا مقاطعتها لاشراكها وزراءا شيوعيين، وحين استقال الوزراء الشيوعيون الاربعة ( لتراخي حكومة الاشتراكي في تنفيذ برنامجها)، كتب برنارد ليفي : لقد تطهرت الحكومة من اربعة فاشيين، وقد اصدر ليفي كتابا يساوي فيه بين الشيوعية والفاشية، ونشر كتابا عنونه: البربرية بوجه انساني، كرسه للهجوم على الشيوعيين واتهامهم بالبربرية، والف صديقه جلوكسمان كتابا لدراسة جذور الفاشية في الارث الفلسفي الالماني زاعما انها تعود الى ماركس ونيتشة مصرا على مساواة الفاشية بالشيوعية.
ومما يذكره التقرير ايضا اكتساب بعض نظريات اليمين تاييدا غير مباشر من قبل اليسار الجديد، على سبيل المثال ينسب بعض منظري اليمين ارهاب الدولة وتعسفها الى الثورات التي تسعى لفرض المساواة، والتي يتطلب تطبيقها دولة بوليسية تضرب بيد من حديد لفرضها، ومع ان بعض مفكري اليمين ادانوا مثل هذه الرؤية، الا ان فوكو مثلا ابدى قبولا وتأييدا ضمنيا بالتذكير بسلبيات الفكر العقلاني التنويري والنزعة الثورية التي آلت الى حمامات الدم ابان الثورة الفرنسية بالقرن الثامن عشر.
يقدم تقرير السي اي اي دليلا على مدى تاثير الشحن المتواصل من قبل كتاب ومفكري ما بعد الحداثه لتوجيه الراي العام لصالح النظام الامريكي وسياسته المتبعة داخل وخارج امريكا، فيقارن بين استفتاء اجري عام 1982 واخر عام 1985 خلال التحضير لقمة ريغان وغورباتشوف
النتائج: 30% مع امريكا 51% ضدها عام 1982.
وفي عام 1985 تصاعدت نسبة تاييد النظام الامريكي الى 43% وهبطت نسبة معارضته الى 27%، بينما تاييد النظام السوفيتي هبط الى 9% مقابل 59% ضده. والملفت للنظر ان الاسئله بالاستفتاء تتضمن اضافة للحريات الشخصية المساواة الاقتصادية والتامين الصحي ومساعدة الدول الفقيرة، أي (ان 43% يعتقدون ان المساواة الاقتصادية والتامين الصحي والمساعدات للدول النامية هي الافضل في ظل النظام الامريكي منها في النظام السوفيتي).
كما عرض التقرير نتائج استفتاءات من لقاءات جرت بشكل مباشر مع الطلبة، تشير الى ان طلبة الجامعات المعروفين بحماسهم الثوري، لا يفكر معظمهم الآن الا بتامين حياة شخصية مرفهة والحصول على عمل يدر مالا وفيرا، ويعزز ذلك عزوف الطلبة من الانخراط في دروس العلوم الانسانية، والتوجه الى دراسة ادارة الاعمال والتجارة والعلوم البحتة.
ما لم يذكره التقرير ان الجامعات الامريكية شجعت على نشر بحوث ما بعد الحداثيين من الأكاديميين الأمريكان، ودأبت على منح الالقاب والمناصب العلمية لأولئك الذين يتبنون تلك الافكار، حتى اصبحت طريقا للمتسلقين الباحثين عن رتب علمية او مكانة في مراكز البحوث كما أكد ذلك تشومسكي في أكثر من مقابلة.