الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
\"الرحلة\": لم تكن كأي رحلة

صدر في بغداد، عن دار مسامير للطباعة والنشر والتوزيع، قبل أشهر معدودة، كتاب (الرحلة.. معاناة وعناية سماوية) لمؤلفه الدكتور رياض فرنسيس. يتألف من فصلين. عنوان الفصل الأول: "بداية النهاية"، وعنوان الفصل الثاني: "مما يعلق في الذاكرة". يقع الكتاب في 173 صفحة من القطع المتوسط، ويضم ملحقاً للصور. ينتمي إلى أدب السيرة الذاتية، ويعالج ثيمات الفقد، والوجع، والقسوة، والصعوبات، والصبر، والقدرة على التحمّل، ثم الفرج والأمان.

بعد أكثر من ثلاثة عقود، يشحن الكاتب ذاكرته ليكتب عن تجربته القاسية التي مرَّ بها مع عائلته في رحلة لم تشبه أي رحلة أخرى. كان ذلك في أعقاب انكسار قوات صدام حسين وانسحابها من الكويت عام 1991، ثم اندلاع الانتفاضة في مدن كردستان العراق في 5 أذار 1991 من العام نفسه، حين قرَّر مغادرة بلدته عنكاوا في رحلة غير طبيعية، بدأت بلحظات وداع قاسية، ملأى بالخوف والترقب، لحظات توقَّف فيها الزمن، وارتبكت فيها الكلمات، وتعثرَّت العيون وسط غيمة من القلق.

كان الخوف يتسلل إلى أعماقهم، ليس من الرحيل وحده، بل مما يحمله الغد من مجهول. ترقّب مشوب بالأسى، كأنهم يمشون على رؤوس أصابعهم، تتلاقى النظرات فتهمس بما تعجز عنه الألسن، ثم تنفلت فجأة.

لم يكن الوداع لحظة عابرة، بل اختزال مكثّف لذاكرة عائلية متجذرة في عنكاوا، ممزوجة بخوف من النسيان، وقلق من أن يكون اللقاء القادم لا يشبه ما تخيّله الحنين. ومع إغلاق الأبواب، يبدأ صمت طويل، ويصبح كل ما بعد تلك اللحظة محاولة لتعلّم الحياة من جديد، من دون من كانوا يخشون وداعهم.

لم تكن رحلتهم عبوراً جغرافياً فحسب، بل عبوراً إلى حافة المجهول، حيث تشابكت الإرادة مع الخوف، وتنازعت أرواحهم بين التشبث بالأمل والاستعداد للفناء. لم يتوقّعوا في بدايتها أن تتحوّل الطريق إلى اختبار قاسٍ للبقاء. وجوههم كانت مرهقة، تحمل آثار الجوع والبرد والسهر، وخطواتهم متثاقلة.

الصعوبات التي واجهتها العائلة لم تكن مجرد عقبات، بل كوابيس تمشي معهم: تضاريس قاسية، شحّ في الماء، ندرة في الطعام، أمراض، وعواصف كانت تعصف بخيمتهم في معسكر للاجئين بتركيا، على ضفاف الزاب في منطقة  ديريجك، ثم في مخيم شمندلي، وبدا أن الموت يقترب منهم ويختبر صبرهم فرداً فرداً.

ومع ذلك، لم تخلُ تلك الرحلة من ومضات نور وأمل، ربما كانت نتيجة دعاء خالص اخترق السماء. ففي 26 نيسان من العام نفسه، رفعت العائلة أيديها المرتجفة نحو السماء، تتشبث بالحياة، تمشي عكس نبض الخوف.

في ذروة المحنة، حين أوصد الألم أبواب الأمل، وشارفت الأرواح على الاستسلام، بزغت المعجزة. فبينما كانت العائلة تتلمّس طريقها في دروب موحشة، وتستشعر الموت من كل الجهات، جاءت النجاة في لحظة لم يتوقّعها أحد.

كانت رحلة تفيض بالكثافة الدرامية، يمكن تسميتها "تراجيديا اللجوء والمنفى"، عنواناً لصراع الإنسان المقتلَع من جذوره، الباحث عن مأوى يقيه ليس فقط قسوة الطبيعة، بل سطوة نظام دكتاتوري أحرق الأخضر واليابس.

مرّت أيام العائلة ثقيلة، كأن الحياة تأبى أن تمضي. لكن شيئاً فشيئاً، ابتسمت السماء بلون أزرق ناعم ذات صباح، وبدأت بشائر الفرح تزحف ببطء نحو ربّ العائلة، التي قاومت وأصرّت، متمسكة بحلمها، متحلّية بالصبر، مؤمنة بالوصول إلى برّ الأمان.

إن تأليف الكاتب لهذه التجربة على هيئة سيرة ذاتية لم يكن مجرد تمرين في التذكّر، بل فعلٌ وجوديّ عميق، ذو دلالات شخصية وثقافية وإنسانية. فقد أعاد استرجاع محطات حياته، وتدوين لحظات الانكسار والتحوّل التي شكّلت شخصيته.

أسهمت هذه المذكرات في التخفيف من وطأة الذكريات، خصوصاً المؤلمة منها، وتمكّن الكاتب من تحويل الجراح إلى قصص ذات معنى، تعكس تجارب العائلة بما فيها من إخفاقات ونجاحات، تُعَدّ اليوم كنزًا من الخبرة الإنسانية.

في هذا الكتاب، يأخذنا الكاتب في رحلة شاقّة عبر الزمان والمكان، حيث تتقاطع الشخصيات والأحداث لتشكّل نسيجاً سردياً غنيّاً بالدلالات والمعاني.

(الرحلة.. معاناة وعناية سماوية) كتاب جدير بالقراءة، في زمن ندر فيه حضور الكتابة الجادّة ذات البعد الإنساني والمغزى العميق.

  كتب بتأريخ :  الخميس 10-07-2025     عدد القراء :  84       عدد التعليقات : 0