الإنتقاءُ التأصيليّ والسَردُ الموائم
تمهيد
قبل أن أتناولَ البحث في متون الحكايا وتحديد ملامحها الفنيّة عِبرَ صياغتها وتحليل نسيجِها السرديّ، لا بدَّ من الإشارة ابتداءً إلى أنّها قد شدّتْ من تداعياتِها وحدةُ النسيج السرديّ متوازيةً تماماً مع دقّة الانتقاءِ الراصد لمرحلة أساسيّة قطعتْ شوطاً بعيداً بمجرى الاستقرار من حياة المجتمع العراقي المتمدّن عموماً والبغداديّ خصوصاً، والتي استعاد مشاهدَها وشخوصَها القاص حسين الجاف، مُعتمِداً إبرازَ الشخصيّات المحوريّة في عرض الحكايا، ضمن عالَمٍ قصصيّ ذي ملامح لم تتأتَّ خصوصيّتُها لأيّة حاضرةٍ من حواضرِ العالم، مُقدِّماً إيّاها مثل نُصُب بارزة تتحرّك ضمن أجوائها في كلّ وحدةٍ من الوحدات التي تشكّل الحكايا باستقلاليةٍ واضحة المعالم، بارزة الملامح، حيث يتناولها القاص في التقديم والعرض المُبهِر، بحيويّة تسجيليّة استرجاعيّة تناسبت مع حيويّة تلك الحياة المحيطة بالشخصيّات موضوعة الحكايا، والضاجّة بطغيان الطيبة والبساطة والعفويّة والالتزام الخلقي، والتي وسمتْ تفاصيلَ حياتهم بسِماتِها، وكذلك قيام القاص بتأشيرِها كراصدٍ يمتلك حسّاسيّةَ الرائي، مُصاحباً ذلك التأشير بأصداء موقفِهِ دون الانجرار وراء التقريريّة المباشرة، للظواهر الغريبة والشاذّة التي نطّتْ وألقت بثقلِها كما لو كانت بحقيقتِها المُريبة.. طارئةً محكومةً بسرعة انحسارِها وتلاشيها، على الرغم ممّا خلّفَته من آثارٍ مأساويّة دقّت العظمَ إبّان ظهورِها – من الوجهة التاريخيّة – كما سيتّضح.
الحكايا من وقائعيّة المكان إلى ذاكرةِ المكان
من المعروف أنَّ لكلّ مدينة في العالم خصائصَ تَشي بملامحِها، وأنّ أيَّ ملمحٍ منها يصبحُ خيطاً يُفضي إلى تفاصيل بقيّة ملامحِها، فتتشكّل معالمُها لتُفصِحَ بالنتيجة عن هويّة خاصّةٍ بها، ومثل أيّة ظاهرة حين نتناولُ مقطعاً مُجتَزَءاً منها تتكثّف أجواؤها وتفاصيلُها لتصل إلى الذِروة، بمعنى التوغّل من تلك التفاصيل وصولاً إلى النواة، ومن هذه الرؤية رصَدنا وقوفَ القاص – الرائي – عند محلّة باب الشيخ كجزءٍ نموذجيّ لجملة محلّات بغداد القديمة، الضاربة في عراقـتِها بعُمقِ التأريخ الحديث لتكوينِها ومن ثمّ كينونتِها، إذ عاشَ في تلك المحلّة كما عايشَ حركةَ أناسِها، فنقلَها بحقيقة وقائعيّتِها كما لو كانت وشماً يُخشى عليه من الانمحاء إلى الأرشفة عِبرَ الجنس الإبداعيّ لفنّ الحبكة القصصيّة، وبذلك انتشلَها من ذلك الواقع الذي غدا بعيداً، إلى تسطيرِها على الورق لتبقى حيّةً في الذاكرة الجمعيّة ضمن مسيرة حياة العراقيّين.
قاموسُ الحكايا ومُفرَداتُها
يقولُ أحدُ الحكماء الفلاسفة: (إنَّ كلَّ شيءٍ موجودٌ في الطبيعة، إلّا أنَّ الفضيلةَ تعود لمُكتشِف الشيء)، وهكذا حين نتتبّع ألفاظ وعبارات الشخوص الذين تعاقبَ على تناولِهم القاص حسين الجاف في مجموع الحكايا، نجد أنّها في الأصل مُتداوَلة، كثيراً مادقّتْ أبوابَ أسماعِنا، إلّا أنّ مويجات النسيان تأخذها بعيداً عن شواطئ الذاكرة، ومن هنا فإنّ الفضلَ في استحضارِها يعود لإمكانيّة ومقدرة القاص الذي حاولَ أن يكونَ مخلصاً لأجواءِ الحكايا بكلّ مُفرَدات وعبارات شخوصِها، تاركاً وراءَهُ كلَّ مُتراكِماتِه المعرفيّة بالتراكيب اللغويّة البديلة، ليجترحَ الدقّةَ والتحديد داخل القبيلة اللغوية التي يتعامل بها ويتعاطاها ويتداولها شخوصُ الحكايا، حيث صاغها القاص من معدن اللهجة البغدادية خالصةً محتفظةً ببريقِها المحلّيّ، وقد تعدّاها حتّى إلى تسمية العديد من الشخصيّات المحوريّة بكُناهم المُتعارَف عليها كأسماءٍ من أسماء الشُهرة وعلى سبيل المثال (مسلم أبو الدوندرمة، حسون أبو دف، وجبر أبو الحياية) وبذلك أضفى على مُنجَزِ الحكايا اكتنازاً مُضافاً يُحسَبُ له في تمازج ِ جُملةِ هذا الإنجاز ليدخلَ خانةَ الأهمّية إن لم نقُل حيّزَ الفَرادة.
الحكايا وموقعها من (دراما السيرة)
أوردَ الباحثُ الأديب ناطق خلوصي في كتابه (الدراما التلفزيونية العربية الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة سنة2000 جملة آراء وإضاءات حول مصطلح (دراما السيرة)، وقد عناها كما وردت في الصفحة 75 من الكتاب المذكور، (بأنها الأعمال الدرامية التلفزيونية التي تتعرّض لسِيَر حياة شخصيّات ذوات تميّز واضح وخاص من مشاهير القادة السياسيّين والعسكريّين والاجتماعيّين وكبار المُبدعين ممّن حقّقوا انجازات علميّة أو سياسيّة أو عسكريّة أو أدبيّة أو فنيّة بارزة حفرت أسماءَهم في ذاكرة الزمن)، وقد فات الباحث، الالتفات إلى الشخصيّات الشعبيّة ولم يتطرّق إلى إيرادِها أو ذِكرِها على الأقل، كشخصيّات الحوذي وبائع الحلوى المتجوّل والحمّال....إلخ، الذين لاقت الدراما التلفزيونية التي تناولتهم، ترحيباً عميقاً من قبل أوسع المشاهدين أيّام عرضِها، وخير دليلٍ أقدّمه ما تركت مسلسلات (تحت موس الحلّاق) التي قدّمها الفنّانان سليم البصري وحمّودي الحارثي في الستّينات، وكذلك حلقات (ناس من طرفنا) التي قدّمها فنّانُ الشعب يوسف العاني في السبعينات، من أثرٍ في نفوس المشاهدين مازال صداها يتردّد إلى اليوم، وهذا ينطبق تماماً على شخصيّات القاص حسين الجاف فيما لو قدّمها فنّانو اليوم ليحوزَ واحدُهم بلقب فنّان الشعب كما حازه يوسف العاني، وتُجدر الإشارة هنا إلى أنّ أيَّ عملٍ دراميّ عراقيّ لم يتطرّق إلى حقبة الحرس القومي سيّء الصيت وجرائمه التي يندى لها جبينُ التأريخ، إذ كانت ممارساتُهم الوضيعة غريبةً عن عادات وتقاليد شعبنا المسالم والمسامح والعريق باجتراح المواقف الإنسانيّة والمبادرات النبيلة طوال الحقب الماضية وربّما إلى الأبد، حيث وردت في الصفحة 97 من كتاب الحكايا، حكاية بعنوان (موتٌ في الظهيرة) تناولت واحدةً من تصرّفات أولئك الأوباش الغريبة عن النسيج الأخلاقي للمجتمع العراقي، وهي التي – التصرّفات - كرّرتْ المَشاهدَ التي تقطر من حواشيِّها الدماء في بقعةٍ أخرى من العالم مثلما حدث في تشيلي، حيث نسجتْ تفاصيلَها الكاتبة أليندي في روايتِها (بيت الأرواح)، وتحوّلت إلى عملٍ سينمائيٍّ نالَ شُهرةً عالميّة لا تُمحى من الذاكرة على الصعيدَين السينمائي والإنساني.
الحكايا سرديّاً أمامَ المقارَنة
لقد سبقَ القاصَّ حسين الجاف، العديدُ من كُتّاب القصّة والرواية العراقيّين في تناول البيئة الشعبية والشخصيّات البغدادية بمختلف تفاوتهم الطبقيّ، وعلى الرغم من أنّه كما بيّنا سلفاً بأنّ الحكايا قد وردت كوحداتٍ تقوم كلّ واحدة منها ككيانٍ حكائيّ مستقلٍّ عن الآخر، على عكس الروايات التي ظهرت في خمسينات وستّينات القرن الماضي كروايات أدمون صبري وغائب طعمة فرمان مثل شخصية سعيد افندي لدى الأوّل وسليمة الخبّازة لدى الثاني، إذ جاءت رواياتهم مارّةً على شخوص متعدّدة في عملٍ روائيٍّ مُجمَل، والذي يهمّنا هنا هو أنّ الروائي فرمان حين قدّمَ لنا رواياته لم يعتمد كلّيّاً السردَ المحصور بالشخوص، وإنّما اعتمدَ السردَ التفصيلي الخاضع لآليّات الفنّ الروائي بما في ذلك الغور بسايكولوجيّة أولئك الشخوص أي الوضع النفسي الذي كانوا عليه أثناء إيرادِهم ضمن السرد، بينما اعتمدَ القاص حسين الجاف السردَ المحكيّ مع مراعاة الدقّة في حصر السرد داخل أجواء الشخوص ودون الوقوع في مطبّات المُباشَرة.
إنّ إيرادي لموضوعة المقارَنة هذه لا تعني على الإطلاق البحث في مُنجَز أيّ من الأدباء الذين أوردتُهم على سبيل المقارنة، وإنّما أردتُ تبيان أهمّية الشخوص الشعبيّة الذين تناولهم منجزُ المبدعين، وقابليّة استحضار كلّ من أولئك الشخوص في عملٍ درامي قابلٍ للتنفيذ، وإن اختلفت السيرة النصّية لكلّ منهم وكذلك الجنس الإبداعي الذي ساروا عليه في تقديم نتاجاتهم.
ولابدّ من التسليم هنا بأنّ كتاب الحكايا هذا يُعتبَر ايقونة من ايقونات السرد الحكائي العراقي الخالص، جديرة بالاحتفاء، واستكمال رسالة عرضِها الأدبي برسالةِ عرضِها المرئي.