زرتُ إيران مرّة واحدة في صيف 1968. كم كنت سعيدةٌ إذْ لم أذهب بطائرة تختزل المسافة بين بغداد وطهران بساعتيْن؛ بل ذهبتُ رفقة عائلتي بسيارتنا الخاصّة. كانت رحلة مدهشة تمتعنا فيها بالطبيعة الفريدة والثقافة الايرانية الثرية وانبهرنا بجمال المدن ونسائها الساحرات، ولم يزل طعمُ تلك الرحلة حاضراً في ذاكرتي. وقد كتبت فصولا مسهبة عن الثقافة والحضارة الايرانية في كتابي (مدني وأهوائي) الذي فاز بجائزة الرحلة المعاصرة 2017.
في طهران العاصمة شهدنا شوارع واسعة أكثر بهاء ورونقاً من معظم شوارع العواصم الاوروبية.فضلا عن كونها مدينة متحفية نفيسة بعمارتها وزخرفاتها ومنمنماتها ومشغولاتها الفنية وموسيقاها المتميزة وتاريخها الحضاري المشهود.
نعرف أنّ النظام السياسي في إيران طاله تغيير بنيوي عام 1979؛ لكنّ الخواص الثقافية الجوهرية للشعب الإيراني بقيت على حالها نقيّة لم تتبدّلْ، وهي موضع إستحقاق التقدير والإحترام دوماً.
استذكرتُ تلك الخواص الرائعة في الهدوء والسكينة والعمل الجاد والمنظّم للشخصية الإيرانية وأنا أتابعُ اللحظات الأولى لبدء الضربات الجوية الشرسة عليها وحينها اتصلت باصدقائي الادباء الايرانيين للاطمئنان على سلامتهم والتضامن الانساني معهم. أطلّ بعضُ المعلّقين الإيرانيين -من الذين صرنا نعرفهم بأسمائهم- على شاشات الفضائيات. لا يمكنُ تغافلُ رؤية معالم الحزن والغضب في عيونهم. وهو أمرٌ طبيعي في هذا الوضع؛ لكنْ لا أحد منهم تخلى عن هدوئه وسكينته. ظلّوا يتكلّمون بذات الهدوء حتى أنّني صرتُ على قناعة راسخة بأنّ هدوءهم خصيصة وراثية مزروعة في ال DNA الخاص بالشعب الإيراني. في المقابل يكاد المرء منّا يُصابُ بالغثيان وهو يشهدُ بعض العراقيين الصخّابين الذين حوّلوا سياقات النقاش الطبيعي والمعقول والمتوقّع إلى مباراة في الصراخ على طريقة المهاويل. هل يظنّون أنّ الصراخ أحدُ أسلحة الفوز في هذه المواجهة؟ لا أظنّهم يؤمنون بهذا؛ لكنّها وسيلتهم التي يتحجّجون بها لإسكات المقابل ولجمه وبثّ الخوف في روعه. لا أريدُ الإستشهاد بالعبارة المكرورة عن الملكيين الأكثر ملكية من الملك ذاته؛ لكنّها تبدو تسويغاً منطقياً وحيداً لما نراه. يمكنُ أن تُقيم مع الاصدقاءالإيرانيين وبخاصة المبدعين منهم نقاشاً مفيداً ومحترماً حتى لو كنت تتخالف مع متبنياتهم الآيديولوجية. هم أنفسهم يتخالفون مع بعضهم في أفكار ومتبنيات جوهرية في طبيعة نظامهم السياسي ومجتمعهم، والحقُّ أنّ هامش الحرية الفلسفية والفكرية عندهم ليس بقليل. لن يسيء إليك إيراني في برنامج تلفازي حتى لو تخالفت معه إلى حدود بعيدة. لن يقول لك عبارة شبيهة بالعبارة التي صارت تجري مجرى الأمثال المجّانية السائدة على ألسنة بعض المعلّقين العراقيين: "افحص DNA الخاص بك"!!. أكرّر: هذه المقاربة التسفيهية التي تستعجل الطعن بالأنساب عند كلّ بادرة خلاف فكري ليست مقاربة إيرانية. إنّها مقاربةُ بعض العراقيين الغائصين في لوثة آيديولوجيا الزعيق بدل الحوار الحقيقي. تخيّلوا معي رثاثة هذه العبارة "افحص ال DNA الخاص بك": ماذا لو أجابك الطرف المقابل: ولماذا لا تفحصه أنت؟ الأمر شبيه بأن يقول شيوعي لرأسمالي: أنا أفضل منك لأنني شيوعي وحسب. أهكذا تقاسُ الأمور؟ بالألفاظ والقناعات الشخصية؟ أليس معيار المفاضلة هو العمل على ما تؤمن به لجعله مرئياً في مخرجاته الجيّدة أمام العالم، وحينها لن تحتاج حتى إلى الدفاع عمّا تفعل بالكلام المجرّد. عرف الإيرانيون من عهود بعيدة أنّ الأفعال هي الأهمّ، وليست الأقوال المجرّدة سوى طاقة مبدّدة في الهواء. نحن كعراقيين لم نتعلّم هذا بعد.
الزاعقون والمردّدون لعبارة (افحص ال DNA) كلّما ضاقت بهم السبل ورأوا آفاق المستقبل تضيق عليهم، يستثمرون جهلهم الخاص بالحضارة الإيرانية ويحوّلونه إلى بضاعة تسويقية. في هذا الشأن تبدو لي إيران شبيهة بأمريكا: نرى كلّاً منهما كتلة واحدة، وليست رؤيتنا سوى مشهد مضبّب تصنعه قناعات مسبّقة مدفوعة بدوافع مذهبية في الحالة الإيرانية، أو بعض وسائل الآيديولوجيا في الحرب الباردة في الحالة الأمريكية. أمريكا وإيران غابتان متشعّبتان تموران بديناميات سياسية وثقافية ناشطة، وهما أبعد ما تكونان عن حالة الجسم السياسي الواحد المتجانس. هذا هو المدخل الحقيقي لفهم كلّ منهما لمن يشاء الفهم الحقيقي بدلاً من التزوير والدفاع عن مصالح شخصية ضيّقة تحت أقنعة مذهبية أو شعارات السوق الحرّة.
ما يؤذيني ويحزنني حقّاً في هذه العبارة "افحص ال DNA الخاص بك" أمران. لن أهتمّ كثيراً بنبرتها الأخلاقية الشعاراتية المتهافتة التي تسعى لتقسيم العالم -كما تفعل الأدبيات الفقهية الأصولية- إلى فسطاطين: أصحاب ال DNA النقي وغير النقي. أهي نزعة عِرْقية جديدة إحياءً لميراث النازيين والتشبّه بهم؟. ما يحزنني حقاً هو أنّ بعض الزاعقين من الأعمار الصغيرة (أغلبهم من مواليد ما بعد 2000) باتوا يشكّلون جيوشاً ألكترونية تسعى للطعن في تاريخ وموقف المدافعين عن الوطنية العراقية والانتماء العراقي. هؤلاء يرون الوطنية العراقية بعضاً من أخلاق الجاهلية الأولى التي دفعت الأجيال المبكرة من الأخوان المسلمين لتكفير كلّ المجتمع. المثال الذي يستحقُّ الإشارة بين أمثلة كثيرة في هذا الشأن هو ما تعرّض له بعض اصدقائنا من هجمة تبدو منسّقة لأنّهم أعلنوا آراء تعبّرُ عن عراقيتهم المتجذّرة التي لا تحتاجُ لإمتحان. أقول دوماً أنّ القوانين التي تحكم الفرد تختلف نوعياً عن القوانين التي تحكم الدول، وأنّ بعض السلوكيات الفردية التي تجنح للتطرف ستكون في عِداد الخيانة العظمى عندما توضع تحت مجهر القوانين الوطنية. عانينا كثيراً من حالة إعلاء القومي على الوطني فيما سبق؛ فهل سنكرّرُ الخطأ ذاته ونعلي الشأن المذهبي على الوطني؟ أصدّقُ كثيراً ما قاله بعض المعلّقين الإيرانيين من أنّ بعض العراقيين المتطرّفين لم يفعلوا بسلوكهم العابر للوطنية سوى جلب الكراهية للإيرانيين.
الأمر الثاني الذي يملأ قلبي حُزناً هو توظيف الثورة العلمية والتقنية الكبرى في ال DNA والهندسة الوراثية في مقايسة أخلاقية بائسة ومهلهلة تثير التنازع والإنقسام المجتمعي. المعروف أنّ ثورة ال DNA بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد نجحت في إحداث إنزياح حقيقي من العلوم الفيزيائية (التي شهدت ذروتها العظمى في تصنيع السلاح النووي قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية) نحو العلوم البيولوجية والبيولوجيا الجزيئية. ظلّت الثورة البيولوجية والتقنيات الوراثية متسيّدةً المشهد العلمي حتى جاءت ثورة الذكاء الإصطناعي، ويبدو أنّ الثورة الأخيرة تتعايش مع كلّ العلوم. تنتابني نوبةٌ من الضحك كلّما فكّرتُ في هذا الشأن: بدلاً من التأقلم مع معطيات الثورة العلمية البيولوجية وقراءة نتاج بعض مؤسسيها الأوائل (مثل كتاب "الحلزون المزدوج The Double Helix" لجورج واتسون على سبيل المثال) للإنتفاع من بعض نتائجها ترانا لا نفعل شيئاً سوى الترويج لفحص ال DNA بنفسٍ عنصريٍ لمعرفة الانتماء الأبوي.
إذا ضاع العراق سيضيع كل شيء. هذا ما أتمنى أن يفهمه الجميع بمن فيهم الصخّابون من ذوي النوازع الشخصية التي إستمرأت عبور حدود العراق وتوهّمت الخلاص بعيداً عنه. إذا ضاع العراق لن تجدوا حينها مصدراً يزوّد ألسنتكم بقدرة الصراخ وتفصيل معايير وطنية خاصة بكم تستبعدُ العراقيين الاخرين المنتمين للعراق وحده.
المُطالِبون بفحص ال DNA يريدون تصنيع عراق موكول لغيب لن يأتي أبداً. السياسة في بعض تعريفها الإجرائي هي التعامل مع الممكن والمتاح؛ فكيف يكون عاقلاً في السياسة من يسعى لتغييب عراق حقيقي يمكن العمل على تعظيم مقدّراته الحاضرة، طمعاً في عراق بمواصفات متخيّلة يريدها هو ورهطه فحسب، وهي ليست أكثر من رغبات مشتهاة في الغيب البعيد؟