هذه محاولة متواضعة جدا لفهم روُية الباحث الاجتماعي الدكتور علي الوردي، كنت قد بدأتها قبل فترة مستعينا ببعض المصادر، ولم انتهي منها بعد. وأنا لا أدعي بأني باحث اجتماعي او بنيَوي، ولكن هي محاولة صغيرة لفهم واقع مجتمعنا العراقي رأيت ان اشارككم بها.
يتطرق هذا المقال الى التحليل الاجتماعي والثقافي للمجتمع العراقي من خلال رؤية المفكر الاجتماعي الدكتور علي الوردي (1913 – 1995)، والذي كرّس حياته لدراسة التناقضات البنيوية في المجتمع العراقي. ويسعى المقال إلى استقراء الأسس النظرية التي قام عليها تشخيص الوردي، مع ربطها بالواقع العراقي الراهن بعد العام 2003، من خلال دراسة المفاهيم التي طرحها كـ"ازدواجية الشخصية"، و"النفاق الاجتماعي"، و"الصراع بين البداوة والمدنية"، وتحليل أسباب الطائفية والتعصب، بالإضافة إلى تأثير الثقافة التقليدية على الحاضر. ويؤكد على استمرار صلاحية أدوات الوردي التحليلية لفهم المجتمع العراقي في ظل التحولات السياسية والاجتماعية المعاصرة.
شهد العراق عبر تاريخه الطويل صراعات داخلية وخارجية، جعلت من بنيته الاجتماعية والثقافية واحدة من أكثر البنى تعقيدًا في الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي يحتضن فيه حضارات عريقة كالسومرية والبابلية والاشورية والاسلامية، يجد نفسه اليوم أمام أزمات بنيوية: سياسية، طائفية، اقتصادية، وتعليمية.
ظهر علي الوردي في النصف الأول من القرن العشرين ناقدًا لهذه البنية، مستخدمًا أدوات علم الاجتماع الحديث لفهم الواقع العراقي المتغير. وقد شكلت كتاباته تحولًا نوعيًا في فهم الذات العراقية، حيث سلّط الضوء على مكونات الصراع الداخلي للفرد والمجتمع، بعيدًا عن التنظير القومي أو الخطاب الديني السائد آنذاك.
وتعتمد هذه الملاحظات على المنهج التحليلي التاريخي، من خلال قراءة مؤلفات الوردي وتحليل نصوصه وتحويلها إلى أدوات لفهم المجتمع المعاصر.
كما تستخدم هذه الملاحظات منهج المقارنة الاجتماعية، من خلال مقارنة تشخيص الوردي بالواقع بعد عام 2003. وتركز على النقاط التالية:
ازدواجية الشخصية
النفاق الاجتماعي
الصراع بين البداوة والمدنية
التدين الشكلي
الطائفية كأداة سياسية
المثالية مقابل الواقعية
ازدواجية الشخصية العراقية – منظور سوسيولوجي
المفهوم
يشير الوردي إلى أن الشخصية العراقية "مزدوجة" بطبيعتها، تتأرجح بين قيم قبلية محافظة ومبادئ مدنية حديثة، بسبب التوتر التاريخي بين البداوة والحضارة.
يقول الوردي:
."العراقي يندفع أحيانًا نحو التديّن والزهد، ثم لا يلبث أن يندفع نحو "اللهو والترف
الأسباب
التحولات السريعة التي مرّ بها العراق من نظام سلطاني إلى جمهوري ثم دكتاتوري ففوضوي.
تغلغل الفكر القبلي والديني في التعليم والإعلام.
غياب المشروع الوطني الحداثي.
النتائج
صعوبة بناء مؤسسات مستقرة.
انفصام في السلوك العام.
عجز في التوفيق بين القانون والعُرف.
النفاق الاجتماعي والتدين الشكلي
يرى الوردي أن النفاق الاجتماعي ناتج عن ضغوط المجتمع الذي يفرض على الفرد أن يظهر بما لا يؤمن به. وهذا يظهر في شيوع الخطاب الأخلاقي والديني مع سلوك مخالف له.
من كتابه "وعاظ السلاطين"
.""الناس يعبدون الله في العلن، ويعبدون مصالحهم في الخفاء
أمثلة معاصرة
ارتفاع مظاهر التدين مع ارتفاع معدلات الفساد.
انتشار الظواهر الاحتفالية الدينية مقابل انهيار القيم الاجتماعية.
استخدام الدين كأداة سياسية وليس كعقيدة سلوكية.
التحول من البداوة إلى المدنية
يشير الوردي إلى أن الدولة العراقية نشأت في ظل مجتمع لم يكن مهيّأ للحياة المدنية الحديثة، مما أدى إلى نوع من "التحديث السطحي".
ويقول:
.""لقد بنينا مؤسسات وحديثنا عنها كأنها معابد، ولكنها خاوية من الداخل
تجليات هذا الصراع.
تغليب العشيرة على القانون.
غياب الثقة في مؤسسات الدولة.
الاعتماد على العلاقات الشخصية والمحسوبية بدل الكفاءة.
الطائفية والتعصب كأدوات صراع
لم يرَ الوردي في الطائفية مجرد انقسام ديني، بل اعتبرها نتيجة لصراع سياسي واقتصادي ملبّس بالدين.
في أحد مقالاته قال:
.""ما من طائفي إلا ويخفي وراء طائفيته مصلحة دنيوية
وقد أكدت أحداث ما بعد 2003 رؤيته حيث جرى:
تقاسم السلطة على أساس طائفي وعرقي.
استخدام الشعارات الدينية لحشد الشارع.
تهميش الكفاءات لحساب الولاءات الطائفية.
الثقافة العراقية بين البلاغة والواقعية
يرى الوردي أن العقل العراقي مغرم بالبلاغة والمثاليات، لكنه ضعيف في التطبيق الواقعي، وهي سمة وصفها بـ"مهزلة العقل البشري".
.""المثالي يحلم بمجتمع لا عنف فيه ولا ظلم، لكنه لا يرى الواقع المعجون بالصراعات
في التعليم والإعلام
التعليم يركّز على التلقين والحفظ لا النقد والتحليل.
الإعلام يعيد إنتاج الخطاب العاطفي بدل الخطاب التحليلي.
استمرار صلاحية أفكار الوردي
لا تزال تحليلات الوردي تعكس جوهر الواقع العراقي المعاصر كما نرى في:
ازدواجية الشخصية تجلت في الانقسام بين المواطن والمكوّن.
النفاق الاجتماعي مستمر في الخطاب العام.
الطائفية تعمّقت سياسيًا واجتماعيًا.
الثقافة لا تزال حبيسة الخطابة والمثاليات.
أثر علي الوردي على الجيل الجديد من الباحثين العراقيين
رغم مرور أكثر من ربع قرن على وفاة الدكتور علي الوردي، لا يزال تأثيره حاضرًا بقوة في الأوساط الأكاديمية والثقافية العراقية. وقد شكّلت أفكاره مرجعية فكرية ومنهجية للعديد من الباحثين الشباب، خصوصًا في سياق محاولاتهم لفهم المجتمع العراقي المعاصر، وما يعانيه من أزمات هوية، وطائفية، وتحلل مؤسساتي.
إن تأثير علي الوردي على الجيل الجديد من الباحثين العراقيين يتجاوز مجرد الاقتباس أو الإعجاب. لقد تحوّل فكره إلى أداة منهجية وموقف فكري ناقد في وجه الاستبداد الديني، والطائفي، والاجتماعي. ورغم تغير الظروف، فإن الوردي ظل نقطة بداية لا يمكن تجاوزها في أي تحليل علمي للمجتمع العراقي، لا لأنه أعطى أجوبة نهائية، بل لأنه فتح باب الأسئلة الكبرى بشجاعة غير معهودة في زمنه.
وفي النهاية، أن قراءة أعمال علي الوردي ليست مجرد استذكار لمفكر كبير، بل هي دعوة لإعادة بناء الفكر الاجتماعي العراقي على أسس علمية ونقدية. إن تفكيك الوردي لطبقات المجتمع العراقي، وتحليله الجريء لها، يضعان أمام الباحثين اليوم خريطة ذهنية لفهم أزمات الهوية والانتماء وبناء الدولة.
ومن هنا، فإن الاستفادة من مشروع الوردي لا تكمن في تكرار مفاهيمه، بل في إحياء روحه النقدية التنويرية، واستيعاب دعوته الدائمة لتحرير العقل من قيود العادات والتقاليد.
المصادر
علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث.
علي الوردي، مهزلة العقل البشري.
علي الوردي، وعاظ السلاطين.
فالح عبد الجبار، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في العراق.
17 تموز 2025