مقدمة
تشهد القارة الأوروبية اليوم تراجعًا ملموسًا في مكانتها على الساحة الدولية، رغم إرثها التاريخي، وقدراتها المؤسسية، ودورها المحوري في تأسيس النظام الليبرالي العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويأتي هذا التراجع في سياق مركب يتداخل فيه البعد السياسي مع الاقتصادي، ويتقاطع مع تحولات جيوسياسية وهيكلية، كان أبرزها الانصياع الأوروبي المتزايد للسياسات الأمريكية في ملفات حاسمة كالحرب في أوكرانيا، والإنفاق العسكري، والعقوبات الاقتصادية. تركز هذه الورقة على تفكيك هذا التحوّل، من زاوية اقتصادية في الأساس، مع إلقاء الضوء على تداعياته الاستراتيجية، سواء على الداخل الأوروبي أو موقع الاتحاد الأوروبي عالميًا.
أولاً: من نموذج الرفاه إلى عسكرة الاقتصاد
شكّل النموذج الأوروبي لما بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصًا في دول مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا والدول الاسكندنافية، تجربة فريدة في الجمع بين اقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية، من خلال ما عُرف بدولة الرفاه. غير أن هذا النموذج بدأ يتآكل تدريجيًا، وبلغ ذروته بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث تم توجيه أولويات السياسات العامة نحو التسلّح على حساب الاستثمارات الاجتماعية والتنموية.
ففي قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي عقدت في واشنطن في يوليو/تموز 2024، قررت غالبية الدول الأعضاء رفع الإنفاق العسكري إلى ما يعادل 2٪ إلى 5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يعادل مئات المليارات من اليورو سنويًا. وتشير بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) إلى أن أوروبا سجلت في عام 2024 أعلى نسبة نمو في الإنفاق العسكري منذ نهاية الحرب الباردة، بزيادة بلغت 17٪ عن العام السابق، في ظل سباق تسلّح مدفوع بالمواجهة مع روسيا ودعم الحرب في أوكرانيا هذا التحوّل لا يعني فقط انحرافًا عن أهداف التنمية المستدامة (المنصوص عليها في أجندة الاتحاد الأوروبي 2030)، بل يحمل أيضًا تداعيات خطيرة على الأمن والسلم الدوليين، خصوصًا مع تزايد تصدير الأسلحة الأوروبية إلى مناطق الصراع مثل أوكرانيا، غزة، ليبيا، والساحل الإفريقي.
ثانيًا: أزمات بنيوية في الاقتصاد الأوروبي
رغم ضخامة اقتصاده (17.1 تريليون دولار في 2024)، يعاني الاتحاد الأوروبي من تباطؤ اقتصادي مزمن. فبحسب بيانات المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي:
• بلغ معدل النمو في منطقة اليورو في الربع الأول من 2025 0.4٪ فقط، وهو أدنى من التوقعات.
• بلغ معدل التضخم في يوليو/تموز 2025 2.6٪، وهو أعلى من المستهدف البالغ 2.0٪.
• بلغ معدل البطالة 6.2٪ في نيسان/أبريل 2025، مع ارتفاع معدل البطالة بين الشباب إلى أكثر من 14٪.
• ارتفعت نسب الفقر النسبي في دول الجنوب الأوروبي (إيطاليا، إسبانيا، اليونان) إلى ما فوق 20٪ من السكان.
هذا التباطؤ يُفاقمه التوجه المتزايد نحو خفض الإنفاق الاجتماعي، إذ تم تقليص موازنات التعليم، والصحة، والإسكان، والبنى التحتية لصالح توجيه الموارد إلى مجالات الأمن والدفاع. ويُلاحظ أن حكومات عدة (خصوصًا في ألمانيا وبولندا وفرنسا) باتت تربط بين دعم الصناعات الدفاعية وبين “إعادة إنعاش الاقتصاد”، في تجاهل واضح لأولوية الابتكار الصناعي المدني.
ثالثًا: الفجوة التكنولوجية والتبعية الطاقية
تواجه أوروبا تحديات جدية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، حيث تأخرت نسبيًا عن الولايات المتحدة والصين في الابتكار الرقمي، الذكاء الاصطناعي، الجيل الخامس والسادس من الإنترنت، وتقنيات الطاقة النظيفة. تشير بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن حصة أوروبا من براءات الاختراع العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي لا تتجاوز 15٪، مقابل 45٪ للولايات المتحدة والصين مجتمعَين.
أما في قطاع الطاقة، فقد تضررت أوروبا بشدة من وقف واردات الغاز الروسي بعد 2022، مما اضطرها إلى الاعتماد على الغاز المسال الأمريكي الأعلى تكلفة بنسبة تصل إلى 40٪، وهو ما أثّر سلبًا على الصناعات الثقيلة مثل الصلب والكيميائيات والزجاج. كما أن دعم الطاقة للقطاع الصناعي بات عبئًا متزايدًا على الموازنات الوطنية.
رابعًا: الآثار الاجتماعية والسياسية للإنفاق العسكري
تظهر الأبحاث الاقتصادية وجود علاقة عكسية بين الإنفاق العسكري والنمو طويل الأجل، حيث يؤدي هذا التوجه إلى تقليص الاستثمار في القطاعات المنتجة ذات التأثير الإيجابي على النمو والتشغيل، مثل التعليم، البحوث، البنية التحتية، والتكنولوجيا. ووفقًا لدراسة للبنك الدولي (2023)، فإن كل زيادة بنسبة 1٪ في الإنفاق العسكري تقابلها انخفاض بنسبة 0.3٪ في الإنفاق على التعليم والصحة.
الأسوأ من ذلك أن عسكرة الاقتصاد تعزز الصراعات الطبقية داخل المجتمعات الأوروبية، حيث تستفيد شركات السلاح والمجمعات الصناعية الدفاعية، بينما يعاني المواطنون من ارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات. ويُلاحظ تصاعد الاحتجاجات الشعبية في فرنسا وألمانيا وهولندا مؤخرًا، رفضًا لسياسات التقشف وغلاء المعيشة.
خامسًا: الحاجة إلى استراتيجية أوروبية بديلة
إن تبني أوروبا للنهج الأمريكي في السياسة الخارجية والاقتصادية " اللبرالية الجديدة"، بما فيه فرض العقوبات، والانخراط في سباقات التسلّح، وتبرير الجرائم الإسرائيلية في غزة بذريعة “الدفاع عن النفس”، وضعف الاستقلالية في القرار السيادي الأوروبي، قد أفقدها الكثير من هيبتها ومكانتها الدولية.
ما تحتاجه أوروبا اليوم ليس فقط مراجعة استراتيجية، بل قطيعة مع هذا النهج. هناك حاجة ملحّة إلى:
• إعادة توجيه الموارد نحو قطاعات الابتكار، والتعليم، والرقمية، والبيئة.
• إعادة الاعتبار لنموذج التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
• بناء سياسة خارجية مستقلة متوازنة تجاه قضايا العالم، وخصوصًا النزاع في الشرق الأوسط.
• تعزيز سياسات الطاقة المتجددة وتحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي.
خاتمة
لقد تحوّل الاتحاد الأوروبي من قوة ناعمة (soft power) تُعلي من شأن القانون الدولي والعدالة وحقوق الإنسان، إلى قوة تُغذّي الصراعات وتُموّل الحرب، في انحراف خطير عن المبادئ التي تأسس عليها. وهذا ما يتطلب وقفة تأمل حقيقية في خياراته المستقبلية، قبل أن يفقد المزيد من وزنه السياسي والاقتصادي في عالم يتجه نحو التعددية القطبية.
إن مستقبل أوروبا يجب أن يُبنى على الابتكار، التنمية، والعدالة، لا على عسكرة الاقتصاد وتحالفات الحرب. فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين عن استشراف المستقبل.
المراجع: باللغة العربية
• تقارير معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) بشأن الإنفاق العسكري، 2024
• البنك المركزي الأوروبي، النشرة الاقتصادية، يوليو/تموز 2025
• إحصاءات المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي بشأن التضخم والبطالة، 2025
• دراسات من البنك الدولي حول أثر الإنفاق العسكري على التعليم والصحة،2023.
• تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي حول الابتكار والتكنولوجيا، 2024
• مواقف المفوضية الأوروبية أو أورسولا فون دير لاين الرسمية بشأن أوكرانيا، 2023 ـ- 2025
• حازم كويي: التصنيع بدلاً من التسلح، الحوار المتمدن ــ العدد8402، 13/7/2025
المراجع: باللغة الانكليزية
• Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI), Military Expenditure Database, 2024.
• European Central Bank, Economic Bulletin, July 2025.
• European Commission, Eurostat Statistics, 2025.
• World Bank, The Economic Impact of Military Spending, Policy Note, 2023.
• World Economic Forum, Global Innovation Index Report, 2024.
• Ursula von der Leyen, Official EU Commission Speeches, 2023–2025.