حاورته شهد مولود الرفاعي
تجربة الشاعر عريان السيد خلف واحدة من التجارب الشعرية المهمة التي سجلت حضوراً لافتاً في المشهد الشعري العراقي. حيث دوّن عبر قصائده سفراً من النضال والكفاح ومقارعة الظلم والأستبداد، وعانى ما عانى من الأضطهاد والجور والملاحقة والسجون. ولكنه دافع باستماتة عن شرف الكلمة ورفعتها وصدح صوته الشجي بأجمل القصائد التي آزرت الفقراء والبسطاء وأنتصرت لأهدافهم ومطامحهم.
ولكي نقف عند هذه التجربة ونقترب من بعض ملامحها كان لنا هذا اللقاء مع الشاعر..
كيف بدأت علاقتك بالحرف والكلمة والشعر ولماذا اخترت الشعر، الشعبي تحديدا رغم انك كتبت بالعربية الفصحى؟
ـ بدأت علاقتي من دون أن احدد الوقت , ولا أعلم على وجه التحديد متى كان ذلك.. وقد كان نتيجة البيئة التي احاطتني وتأثري الواضح بها، فضلا على كثرة المجالس والدواوين التي كنت اتردد عليها بصحبة والدي الشاعر في مجلسه. وفي مجلسنا بالذات كنت أحفظ الكثير من الشعر مما ترك أثراً في ذاتي وتكويني الثقافي
باعتبارك احد رواد الشعر الشعبي العراقي واحد الرموز الثقافية,, كيف تنظر الى مستقبل القصيدة الشعبية في العراق؟
ـ القصيدة الشعبية كأي لون إبداعي آخر هي وليدة الإحداث والصراعات وكذلك الأوضاع السياسية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع. ولأنه نتاج أنساني ثر فانه يصدر ممن كان أكثر التصاقا بشعبه ويتأثر بفرحه ويحزن لحزنه، وهكذا يصبح بامكانه ان يعبر عن معاناة شعبه.. والفترات التي كتب فيها الشعر سواء من قبل شعراء كان اغلبهم أميين يمتلكون الموهبة، فانهم كانوا أكثر أحساسا وتماسا مع شعبهم ومنهم الحاج زاير وابو معيشي عبود غفله. ومنهم من كان يكتب ويقرأ واخرون يعرفون الشعر بالسجية، ولذلك خلدت أسماؤهم الى يومنا هذا. أما عن شعر اليوم فهو مجرد (هوسه) وصراخ غير مبني على أحساس صادق واغلبه ببغائي تقليدي لذلك ترين أفواجا من النظّامين اشبه بمسطر للعمّالة. وأتذكر هنا قول الشاعر (ايليوت) حين سئل عن كيفية تمييزه بين الشعر وغيره حيث قال:
عندما اشعر بقشعريرة في الجسد ومغص في أمعائي ودوران في الرأس أدرك ان ما سمعته هو الشعر..
يقال ان القصيدة الشعبية اقرب إلى المتلقي في نبضها وايقاعها وبساطتها هل تتعمد ألبساطه في شعرك مع ان اغلب قصائدك تتسم بالعمق وبريق الفكرة؟
ـ أنا لا أتعمد البساطة أو افتعلها وإنما اكتبها باللهجة التي أتحدث بها مع أصدقائي ومع زوجتي وأحبائي واراها مجزية، لأنني اعبر عما أريد. لذلك اكتب ألقصيدة الشعبية بنفس الطريقة التي أتحدث بها وبدون أن اختار لها ما ينمقها. أو يزرقشها لذلك تأتي القصيدة ريفية وحضرية كما الفت..
تتهم القصيدة الشعبية بالتسطح والعفوية وسذاجة وعي كتابها، باستثناء الأسماء الكبيرة التي تمثلونها مع ثلة من الشعراء العراقيين الذين نهلوا من الفكر والثقافة. كيف تعلق على هذه التهم؟
ـ قد تكون صحيحة مادام من يكتبها ألآن لا يمتلك الثقافة الواسعة والعمق المعرفي والاكتناز الثقافي، ولانه ينظر الى الحياة نظرة سطحية غير مسؤولة..
ماذا بعد مجاميعك الست؟
ـ أقوم الآن بجمع القصائد الأخيرة التي لم تنشر في مجاميعي الصادرة وسأحاول إصدارها تحت عنوان (القيامة) لتحتوي بين دفتيها على قصائد لم تقرأ في الجلسات والمهرجانات..
كتبت العديد من القصائد الشعرية والتي ترسخت في الذاكرة الجمعية العراقية ومثلت صوتك الحقيقي في مقارعة الأنظمة الشمولية..كيف دفعت ثمن الكلمة الصادقة التي حملت عمق المبادئ ورفعتها؟
ـ على المبدع او الفنان عموما ان يكون حقيقيا وان يختار اما الانحياز الى الفقراء والناس او الى الجانب الاخر. وانا اخترت الاول لانني كنت اتلمس - وانا صغير- الظلم الذي يقع على الفلاحيين الذين يعملون في الارض ,هم وعوائلهم. ولذلك وجدت نفسي متمردا على قبيلتي ومنحازا الى الفقراء. وهذا بلا شك شرف كبير لي , ان اقف بوجه الظلم مهما كان الثمن وقد عانيت من ذلك كثيرا وحكم علي بالاعدام وقطع لساني وكسرت لي ثلاثة اضلاع وكسرت يدي. وخرائط التعذيب واضحة على جسدي فضلا عن الركل والاهانات. وهكذا تحملنا واجتزنا المحنة. انها رسالة شرف افتخر بها ولا اخجل من البوح بها، لانني حافظت على شرف الكلمة وشرف الرجل..
ابدعت في كل فنون الشعر الشعبي كالأبوذية و الدارمي، وغنى لك العديد من الفنانين العراقيين امثال سعدون جابر وقحطان العطار وغيرهم. هل تعتقد ان القصيدة الغنائية طريق مهم للشهرة وإيصال أفكارك لأكبر شريحة من المتلقين؟
ـ هذا صحيح.. الاغنية قد تشتهر اكثر من القصيدة بحكم عرضها عبر قنوات التلفزة والاذاعات. ولكنني لم اكتب يوما قصيدة مكرسة للغناء. وإنما كتبت قصائد يختار منها الفنانون والملحنون وتغنى بعد لذلك..غنى لي رياض احمد (واضح بعد ما يحتاج تتعذر) وسعدون جابر (عيني عيني) وصباح السهل (بلاي وداع) وحميد منصور (توصينه) وفاضل عواد (روحي بيدك) اضافة الى مطربين آخرين لا أتذكرهم.. القصيدة التي تأتي مفرداتها مموسقة وذاتية تصلح ان تكون أغنية ولذلك نسمع اغنيات نزار قباني وإبراهيم ناجي وشعرا ء اخرين كتبوا قصائدهم التي تصلح للتلحين والغناء...
اخلصت للأبوذيه التي تميز بها الجنوب العراقي وكتبت فيها روائعك ألمعروفه هل تعتقد ان العالمية تنطلق من الخصوصية والمحلية؟
ـ لا شك ان العالمية تنطلق من الخصوصية والمحلية. وقبل فترة حدثني احد الأطباء عندما ضيفني اتحاد الأدباء والكتاب وقال في مداخلته: كانت لي جارة انكليزية في لندن ومن أقارب رئيسة الوزراء (مارغريت تاتشر) ارتبطنا بها بعلاقة عائلية..وفي أحدى الزيارات الى بيتها وجدت صورك وقصائدك معلقه على جدران الغرفة. سألتها من هذا؟ قالت (ايريان) ثم سألتني هل تعرفه؟ فقلت لها:نعم انه صديقي وحدثتها عنك كثيرا فضحكت.
وفي جولتي في أمريكا و الدنمارك و سويسرا وهولندا و بلجيكا وجدت ان اغلب الجمهور المتواجد في القاعات هم من الاجانب. وفي هولندا حيث كانت القاعة مكتظة بالحضور دخلت فتاة عشرينية جميلة شقراء الى القاعة ولم تجد مقعدا فارغا لتجلس, ثم جلست أمامي.. وأنا القي القصيدة وجدتها تبكي وتنظر الي بذهول. سألها مترجم بعد أن انتهيت من القراءات وتحلق الناس حولي ليهنئوني وامسكت بيدها قائلا: هل أنت عربية؟ هل فهمتِ قصائدي؟ قالت: لا.. فقلت لها لم بكيت اذن؟ قالت وجدت الإيقاع حزينا جدا..
وانا تعلمت الإيقاع الحزين من امهاتنا اللواتي كانت دموعهن تختلط مع الخبز. واصبح غناؤنا حزينا، وفرحنا حزينا، وكلامنا حزينا نحن بلد السواد...
كيف يمكن ان يكون الشاعر مؤثرا، وكيف يمكن ان يطور ادواته الشعرية في مواكبة كل معطيات التجديد؟
ـ اذا اردت ان تكون معروفا او محبوبا، كن صادقا مع نفسك أولا ومع الناس، وعندها سوف تكون محبوبا..كيف تفسرين كلام العوائل التي تلتقي بي فى التقاطعات وهم يهتفون: كيف حالك ياشريف؟ نحن نحبك... وهذه الكلمة كنز وانت ملك المحبة.. شكرا لمن احبني وشكرا لمن كرهني وشكرا لمن تقتله الغيرة واقول للآخرين كونوا
مثلي.. تحبون شعبكم واحبتكم....
لقد تميزت القصيدة الستينية و السبعينية بعمقها وجماليتها، بينما انحسرت هذه الابعاد في القصيدة ألحديثة. الى ماذا تحيل ذلك وقد واكبت اغزر المراحل عطاء وابداعا؟
ـ في فترة السبعينيات وما قبلها كان من يكتب القصيدة الشعبية هم اكبر المثقفين وخاصة من اليساريين التقدميين. واذكر لك مثالا بعد ان نتجاوز عرابنا مظفر النواب الذي سبقنا وهو الشاعر الكبير، واذكر لك اسماء تلته ومنهم شاكر السماوي أستاذ اللغة الانكليزية، وكان قد اطلع على الادب الانكليزي بشكل واسع. كذلك عزيز السماوي وهو مهندس وكذلك كريم محمد - استاذ جامعي. ولا ولن انسى ان اذكر لك الكاتب والاستاذ علي الشيباني وطارق ياسين وناظم السماوي وزهير الدجيلي رحمه الله الذي اشتهر بكتابة قصص الاطفال في المسلسل الرائع (افتح ياسمسم) وغيرهم هؤلاء كنوز ثقافية ممتلئة بالوعي الثقافي استطاعوا ان يجمعوا هذه السمات ووضعها في بوتقة الابداع. وقصائدهم كانت مرجعا ينمي وعي الجماهير وينمي فيهم الصبر وروح التماسك..
يقال ان مجد القصيدة وعظمتها يكمن في لغتها ولغتك تتميز في تفردها وخصوصيتها,, من أين اكتسبتها وكيف تشكلت؟؟
ـ لغتي لم استعرها واكتسبها من جهة ما، رغم ان عائلتي انتقلت من الشطرة الى بغداد في بداية الستينات وحيث أكملت دراستي ألمتوسطة والجامعية أيضا. ولكنني لم اخدش تلك اللغة القروية الجميلة التي اصطحبتها معي بأسلوبها الجميل والتي تربيت عليها وفتحت عيني عليها. وهي لم تأت من القمر، فهي لغة السومريين ولغة اهلنا. هذه اللهجة هي من أكون معها أكثر حميمية وصدقا. ولا ادري لماذا أتلذذ عندما بدل ان أقول: انتظرك، أقول: أتانيك.
ما الذي اخذه منك الشعر وماذا اعطاك؟
ـ الشعر اخذ مني واجبرني ان ادفع ضريبة المواطنة: السجون والتعذيب والمعتقلات والملاحقة، مما دفعني ان اعمل عامل بناء وحمال لكي أوفر قوت أطفالي. واضطررت ان انقل عائلتي واهرب بهم الى مناطق نائية في أطراف بغداد وانظر إلى زوجتي وأقول لها: اسقط ام لا اسقط؟ وكانت ترد وتقول: لن تسقط. كانت امرأه عظيمة ولا انسى انها كانت في الاعياد تأتي بملابس الزفاف وتحولها الى ملابس جميلة للاطفال. وفي احد الايام قال لي احدهم:هاي تاليتك حمال؟ وقلت له:
انكطع خيط الوفه وضيعنه الأمال
وكثر حجي الجذب والمستحه انشال
وحك سونه وحجيها ورفة العين
وحك خلدون وأمه وطيبة البال
لاضوك المر عمر واجرع الويل
واحمل على الجتف وانسام حمال
ولا أذلن غصب لجفوف الأنذال
أعطاني الشعر الشعور بالزهو واحترام الذات ومحبة الآخرين
كيف تصف هذه الكلمات شعريا (المرأة , الوطن، دجلة والفرات , النخلة , الام)
ـ المرأة: ياكمرة حياتي وبعد ما هلت
ـ الوطن: ربيت بدهلتك وأنهارك أتفور
دم ودمع وتطول المشاوير
أنا نخلة البرحي الرفضت أتطيح
وعشكتك كاع ماعشتك تصاوير
ـ دجله والفرات: الشرايين التي توصل الدم الى القلب لكي تستمر الحياة
ـ النخلة: قال رسول الله (ص) كرموا عمتكم النخلة.. هي رمز العراق وهي عراقية الأصل والخلق.. مرة وانا في الإمارات كنت اسير مع احد اصدقائي الاماراتيين في شارع مكتظ بالنخيل المستورد من العراق، واستغربت ان النخلة هناك قصيرة ولكنها تحمل التمر وسألني لماذا النخلة لدينا قصيرة؟.. قلت له: لان النخلة لا تشمخ إلا في ارضها. هي هنا تعلن انها غريبة..
ـ الأم:. انا فقدت امي مبكرا وربتني اختي الكبرى. فهي تبنتني وهي التي نالت ما نالت وتابعتني من سجن الى سجن وتحملت الاهانات والكلام البذيء. وعندما سألها احد الحراس يوما: لماذا لا تأكلين وانا اراقبك منذ الصباح وانت تجلسين في باب السجن؟
قالت:
آكل حمس واشرب نهيمه على الحابسينه بلا تهيمه
أخيرا امنية الشاعر عريان السيد خلف؟؟
ـ ان أرى ابناء محلتي يتسوقون دون خوف واسمع قهقهات الاطفال ولعبهم لكي اتأكد أن العراق آمن وانه يتخلص من العقول العفنة و القتل والسرقة، واننا ننتمي الى بلدان أخرى اكثر رقيا. نعم، سوف يعود العراق شامخا قويا وستندحر كل الأشباح التي تحاول أن تشوهه..